في المحرق لم يلتق الماضي بالحاضر فقط، بل التقى العالم بأسره بأهل المحرق، التقاء في فضاء مفتوح أشبه بالمسرح الواقعي دون أي أدوات المكياج أو الزينة، بل كان لقاء عفوياً طبيعياً تلاقت من خلاله القلوب قبل الأجساد، شهر كامل تجولت من خلاله جموع الزائرين عبر أحياء وفرجان و(دواعيس) المحرق، تعرفت على العوائل، وتذوقت الطعام البحريني، وزاروا بيوتات الأهالي التراثية والقديمة، التي نطقت جدرانها، وتحركت أحاسيسها لتحكي قصص أجيال وأجيال تعاقبت تحت سقف تلك البيوت، ثلاثون يوماً من التنوع وتعدد التجارب، وتلاقي الأذواق ما بين الفن والثقافة والأدب والرياضة والتجارة، والمهن القديمة.
لم تكن ليالي المحرق لقاءً عابراً، بل كان حقبة زمنية لا تمحى من الذاكرة، أفردت له هيئة البحرين للثقافة والآثار الساحات والميادين والطرق عبر كوادر وطنية وشراكات حقيقية وفرق عمل التقت جميعها لتشكل أنموذجاً حياً للبحرين في عاصمتها القديمة، إنها المحرق يا سادة التي تشرفت بإطلاق حضرة صاحب الجلالة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه عليها لقب أم المدن والمدرسة الوطنية، فكانت بالفعل كالأم التي تحتضن زوارها من البحرين ومقيمها، من الخليج وأشقائنا، من العرب والأحباب، من العالم بأسره، والمدرسة الوطنية التي أعطت في ثلاثين يوماً ما لم تعطه المدارس والجامعات في سنوات عديدة، أعطت العلم والثقافة والرياضة والأدب والفنون، وقبل كل ذلك أعطت الحب ونكران الثقة وعشق الوطن وحبة الأرض، قدمت الدروس تلو الدروس في الهوية الوطنية، وكل ذلك لم يكن بالأقوال، بل كان بالأفعال والتعامل والترحاب.
في المحرق كان الملتقى بين الأجيال، تجد صغاراً وآباءً، وتفرح بوجود الأجداد، الذين أعادوا ذاكرتهم لمشاهد مضت عليها السنون، تجولوا في الفرجان وكأنهم يستحضرون الماضي، عادت لهم الابتسامة الممزوجة بالشوق والحنين، ذكريات رأوها رأي العين أمامهم، وكأننا في منتج صحي يعيد للمقعد قدرته على السير، وللمريض صحته التي فقدها، ولفاقد الذاكرة ذاكرته التي توهم بأنها رحلت، وللطفل الذي انشغل بالتطور والحداثة والتكنلوجيا بأن هناك ما هو أجمل من الشاشات والهواتف، هناك الروح وهناك الشغف، وهناك الضحكة الواقعية البعيدة كل البعد عن التكلف، هناك الواقع الحقيقي لا الافتراضي، هناك باختصار «المحرق».
تحدثت المحرق عن نفسها عبر تراحيب وضحكات واستقبال أهلها للعالم، وتحدثت حين نشدت الفرق الشعبية بألحان المحرق التراثية، تحدثت المحرق حين نثرت الغبار عن مكتباتها، وأفصحت عن أدبائها ومثقفيها وقدمتهم للحضور، تحدثت عن إماطة اللثام عن تاريخ التعليم بها الذي يمتد إلى أكثر من مائة عام، تحدثت حيث نثرت لآلئها أمام زوارها مبينة عن جمالها الأخاذ، عن بحرها الذي عشقه أهلها وعشقهم، عن أغاني الصيد وتاريخ الفنون.
إنها المحرق التي لا يكفيها عمود واحد، فهي رائدة الصحافة وموطن الكتاب، إنها ليست بليالي المحرق وحسب، إنها قلب الوطن النابض وموطن نبض القلوب.