من الأمور التي تلتبس في الذهن عندنا أننا نتصور أن «المعارضة السياسية» تخصص، تماماً كالطبيب وكالمهندس وكالمعلم فنعتقد أن «المعارض» تخصص مهني للأفراد، فمن يجلس عليه في زمن ما يحتفظ به إلى آخر عمره، وهذا تصنيف جامد يرسم خطوطاً فاصلة بين المعارضة والسلطة لا يمكن أن يتفق مع أي نظام فيه تبادل للأدوار ومشاركة في صناعة القرار الديمقراطي.

المعارضة هي مقعد ثابت، إنما الأشخاص الذين يحتلونه هم من يتغيرون ويتناوبون على جلوسه، فأحياناً يتغير من يحتل المقعد بالتبادل كالكراسي الموسيقية بين اثنين، يقوم شخص ويجلس آخر مكانه، وبإمكان الشخص الذي ترك المقعد المعارض أن يعود إليه.

وهذا ينطبق حتى على النظم الديمقراطية في العالم كله الذي يتم فيه تشكيل الحكومة من كتلة الأغلبية الفائزة في المجالس التشريعية، فيفقد الوزير وحزبه مقعد «المعارض» إن دخل التشكيل، إلى أن يعود لمقعده بعد أن يخرج من التشكيلة الحكومية، وهكذا يبقى المقعد ويتغير الجالسون عليه.

وفي نظام سياسي كنظامنا فيه حرية تشكيل الأحزاب أي الجمعيات السياسية، تجد حزباً ما يشارك في الحكومة لا عن طريق الفوز بالأغلبية بل عن طريق التعيين، فتجد أحياناً وزيراً أو أكثر كانوا أعضاء في جمعية سياسية ما وتم تعيينهم كوزراء، كما حدث مع أعضاء كانوا مؤسسين لجمعية الوفاق سابقاً وكما حدث مع أعضاء لجمعيات كالأصالة والمنبر وغيرهم، وكما تم مع تعيين من كان معارضاً منفياً أو معارضاً محلياً فأصبح وزيراً، هنا تتغير معادلته الكيميائية، فلا يعد من بعد تعيينه في السلطة التنفيذية «معارضاً».

هذا من حيث الموقع وكذلك من حيث «الموقف» فجمعية أو حزب عارضا السلطة التنفيذية في قرار ما، ممكن أن يتفقا ويؤيدا ويدافعا عن قرار آخر، والموقفان جائزان ومشروعان، كما حدث حين أيدت جمعية الوفاق قانون التعطل الذي تقدمت به الحكومة، ورفضته وعارضته جمعيات صنفت وفق التصنيف الجامد أنها «موالية»، وهكذا نرى أن فعل المعارضة لا يحصر ولا يحتكره أشخاص أو أحزاب، بل هو مقعد يحتله من يعارض السلطة التنفيذية في موقف ما، ويقوم ويجلس عليه آخرون في موقف آخر، وهنا نضع خطين كذلك لإزالة اللبس عن مفهوم المعارضة في النظم الديمقراطية.

فالمعارض هو معارض للسلطة التنفيذية لا للنظام أو العقد الاجتماعي، والتعديل على العقود لا يعد فعلاً معارضاً، وحتى ذلك الحراك له حدود لا يتجاوزها، حراك لا يمس النظام الأساسي للدولة، فلا يجوز له حمل السلاح، ولا يجوز له التحريض على خرق القانون، ولا يجوز له دعم الإرهاب، ولا يجوز له الاتصال بجهات أجنبية والتعاون معها خارج الضوابط القانونية، فليس لأي فرد من المواطنين امتيازات قانونية خاصة تفرقه عن أي مواطن أثناء ممارسته لفعل الاعتراض، بمعنى إن شاء فرد أو عضو في حزب ما أن يتخذ موقفاً معارضاً من السلطة التنفيذية ويجلس على كرسي المعارضة فله ذلك، على أن يلتزم بضوابط الحراك السياسي، فإن تجاوزها فليس له أن يكون فوق القانون فقط لأنه «معارض» فليس للمعارض ريشة تضعه فوق القانون.

إنما البلاء الذي ابتلي به العديد من الذين كان لهم تاريخ نضالي ضد الاستعمار وهو موقف مشرف لا غبار عليه، أنهم ظنوا أن ذلك كرسي دائم لهم حتى بعد أن خرج الاستعمار ووجدت الدولة، كرسي يجيز لهم عدم الاعتراف بالدولة أو بقوانينها أو بمؤسساتها أو بدستورها امتداداً لعدم اعترافهم بالسلطات المحتلة السابقة.

البلاء الآخر هو أن العديد منهم من باب الالتزام الحزبي «بلع موساً» وسكت على تصرفات قياداته الحزبية التي لا يتفق مع الكثير منها، فعبر عن رفضه واعتراضه داخلياً فقط، لكنه تغاضى علناً وسكت عن تلك التصرفات، فاحتسبت عليه تلك التصرفات وعليه أن يتحمل وزرها مع قياداته، فقيادات الجمعيات السياسية التي حلت والتي في طريقها للحل لا يتحملون وحدهم ما آلت إليه مصائر تلك الجمعيات، بل يتحمل معهم النتيجة كل من بقي عضواً، فإذا عجزت عن إصلاح بيتك الداخلي فلا تلومن من يأخذك بجريرة رب البيت.