كثيراً ما كنت أتساءل «ما معنى أن يكون المرء منا مستقلاً فكرياً لا تابعاً لأحدهم؟»، في سنوات شبابي الأولى «أو مراهقتي -إن صح التعبير- وجدتني أسعى للتحرر من التبعية للأفراد من حولي، والبحث عن مساراتي الخاصة التي أجدني على قناعة تامة بها -أو أظن ذلك- سواء اتسقت حيناً مع رأي الآخرين، أو اختلفت عنهم أحياناً أخرى. ولكني كبرت.. وأدركت أن الاستقلال الفكري لا ينطوي على التحرر من تعليمات المحيطين بك والتصرف بما تمليه عليك قناعاتك سواء أرضاهم أم أثار سخطهم عليك، ولا أن تمضي ضد التيار دوماً بنية التفرد والتميز ظناً منك أن الاختلاف المطلق يصنع شخصية الإنسان ويبلور له فكراً مستقلاً. فوجدتني أمام معضلة حقيقية أكبر بكثير مما كنت أتصورها». وها نحن اليوم في المعترك الأكبر، وأجد المسألة لا تتعلق بي شخصياً وحسب، بل تعني كثيرين من حولي، بل كل من حولي، كل البشر.

وبينما نجد من نصفهم بالتابعين للسلطات أو الأحزاب والمؤسسات، نقف أمام معضلة «ما هو الاستقلال الفكري؟» هل هو التعامل مع الأمور بصفة المثقف الواعي وفق الثقافة الغربية، الذي تعرض لوشايات مسؤولين سابقين في حكوماتهم ليكشفوا عن ما يسمونه المخططات السرية منذ عقود لسياسات بلدانهم تجاه المنطقة، لنجدنا من الضحايا في كل مرة وإن مارست تلك البلدان في الوقت الراهن دور المنقذ أو المخلص من التهالك الآنية، لتسوقنا لتهالك مستقبلية أعظم وأوسع انتشاراً. فنخالف آراء الساسة والنخب المؤيدة وننزوي في دائرة الاستياء من كل ما يحدث من قبل كافة الأطراف؟!!

هل يعني الاستقلال الفكري التركيز على مصالحنا وفق ترتيب أولويات منطقي أو مثالي للمصلحة الشخصية ومن ثم الأسرية، ثم القبيلة أو الجماعة ومنها إلى الدين أو العرق أو الدولة أو الإقليم وغيرها؟!! هل يعني أننا ننعزل ببراغماتية عن الآخرين في لعبة البحث عن مصالحنا الخاصة بدوائر انتماءاتنا لنكون مستقلين غير تابعين للآخر الخارجي؟ أم أن الاستقلال الفكري يعني الوعي الإنساني الشامل القائم على مبادئ السلام والتسامح وأن الأرض لله والكل سواسية في مستحقاتهم منها بقدر الحاجة؟!! أم نحتمي فكرياً بالمنظور اللاهوتي للأمور الذي يجعل من الدين مرجعاً وملجأ ومنجا؟!!

في كل هذا، كلنا مقولبون فكرياً بطريقة أو بأخرى، حتى إننا إذا ما ادعينا الانعتاق انضوينا تحت فكر حديث يدعي التجرد، فنجد من يفاخر بعلمانيته أو ليبراليته أو اشتراكيته وربما بشيوعيته وإلحاده، في تغاضٍ تام عن أن ذلك هو أيضاً قالب فكري وقيد أحكم على عقل المثقف قبضته وإن تحرر من قيود دينية أو اجتماعية ما، فهو كمن خرج من سجن إلى آخر وإن تفاوت الحجم أو تبدلت الألوان، فقد تعيش في سجن غرفة مظلمة نائية تحت الأرض، وقد تسجن في قصر منيف ملؤه سبل الترفيه والراحة، ولكنه يظل سجناً مهما كبر، يضيق عليك نطاق الانطلاق نحو الفضاء شاسع النطاق والانعتاق إلى العالم الرحب.

اختلاج النبض:

إذا كان المثقف مؤدلجاً من الأساس بطريقة ما، فهل سيكون قادراً على الأدلجة خارج السياق الذي قد تم إعداده عليه، أو أعد نفسه في إطاره؟ وهل يمكن في هذا السياق القول إن المثقف صانع للفكر أو عبد له؟ ويبقى السؤال الأول قيد التأمل «ما هو الاستقلال الفكري؟»، أتراه ينطلق الاستقلال الفكري من العدم؟