جلس ثلاثة مسؤولين نرويجيين لامتحان الشاب العراقي «القادم من الشرق» في جيولوجيا النفط. بعد نحو ساعة، وافقت اللجنة بالإجماع على توظيف «الجيولوجي» العراقي المتقدم لوظيفة في مكتب النفط بوزارة الصناعة النرويجية.. وبمنصب مستشار!
قصة التجربة النرويجية تبدأ في العاشر من يونيو 1968، حينها اُكتشف مخزون نفطي هائل في جزء من بحر الشمال ضمن المياه الإقليمية النرويجية. كان المستشار العراقي فاروق القاسم شاهداً على هذه التجربة بل ورائداً فيها بحسب ما ذكره في كتابه الماتع «النموذج النرويجي «إدارة المصادر البترولية»».
خلاصة هذه التجربة، أن الإدارة النرويجية لم ترغب في الاتكاء كلياً على «الذهب الأسود» الذي كانت مؤشرات ينوعه تؤكد أنه سلعة القرن العشرين وربما الواحد والعشرين. فقد أثار هاجس «المرض الهولندي» اقتصاديَّ النرويج، إذ إن ازدهار قطاع التصدير النفطي يؤدي إلى نقل عوامل الإنتاج من قطاع الصناعات التحويلية إلى القطاع النفطي، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي مع بروز فقاعة اقتصادية في شكل رفاه استهلاكي، تؤثر بشكل خطير على قطاع الإنتاج المحلي للسلع ما يضخم الأسعار بسبب ثبات مؤشر العرض. ويؤدي هذا الأمر أيضاً إلى زيادة الواردات على حساب الصادرات، وهو بدوره يخلخل الميزان التجاري على المدى القصير ويحدث ضعضعة في آليات الاقتصاد على المستوى الطويل، خصوصاً عندما يُضرب المورد الأوحد لمثل هذا النوع من الاقتصاديات المعروف باقتصاد الريع.
لكي لا يحدث هذا السيناريو، أوجدت الاستشارات التي طلبتها الحكومة النرويجية من الخبراء الاقتصاديين الوطنيين حلاً مبدعاً تمثل فيما عُرف بـ«صندوق التقاعد» الذي استقطب العوائد النفطية ووجهها إلى الاستثمار في قطاعات خارجية مختلفة عن تلك المعهودة في الاقتصاد النرويجي بغية تحقيق أمرين، اكتفاء ذاتي نسبي من جهة وربحية استثمارية من جهة أخرى، يـُصيـَّـر سنوياً منها ما لا يتجاوز الـ4% إلى الموازنة العامة. هذه الآلية الاستثمارية جعلت الصندوق يحوز ما يصل إلى 330 مليار دولار عام 2007، علماً بأن الفترة الزمنية لهذه الغلة لم تبلغ العقدين، إذ بدأت عام 1990.
إضافةً إلى ذلك كله، أصبحت النرويج من دولة مصدرة للنفط إلى دولة مصنعة للتكنولوجيات النفطية، كما أنها تملك اليوم مراكز أبحاث وعلوم في هذا المجال تضارع في جودتها نظائرها الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان.
في شأن معاكس تماماً، تبرز تجربة مخلفات الطيور البيروانية، ففي مجموعة جزر تابعة لدولة البيرو، أدى تجمع لطيور نادرة إلى تكدس أطنان من مخلفاتها التي اكتشفت السلطات البريطانية في القرن التاسع عشر أنها مناسبة كمصدر للطاقة، خصوصاً أنها رخيصة الكلفة وسهلة الاستعمال. هذا الأمر أدى إلى وجود مصدر ربحي وافر للسلطات الحاكمة في البيرو التي أخذت ممارساتها في التعامل مع هذا الإيراد، تخلق فقاعة اقتصادية قوامها الزيادة في الاقتراض الخارجي لرفع مستوى الرفاه اعتماداً على دخل «المخلفات». لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي عام 1865 أعلنت البيرو إفلاسها نظراً لسقوط «مخلفات» الطيور من قائمة مصادر الطاقة المطلوبة دولياً.
انتهى المثالان ويبقى الواقع في مملكة كالبحرين ينضح بأحد خياريه، تجربة الاستثمار النرويجية أم تجربة المخلفات البيروانية؟
* باحث قانوني واقتصادي
{{ article.visit_count }}
قصة التجربة النرويجية تبدأ في العاشر من يونيو 1968، حينها اُكتشف مخزون نفطي هائل في جزء من بحر الشمال ضمن المياه الإقليمية النرويجية. كان المستشار العراقي فاروق القاسم شاهداً على هذه التجربة بل ورائداً فيها بحسب ما ذكره في كتابه الماتع «النموذج النرويجي «إدارة المصادر البترولية»».
خلاصة هذه التجربة، أن الإدارة النرويجية لم ترغب في الاتكاء كلياً على «الذهب الأسود» الذي كانت مؤشرات ينوعه تؤكد أنه سلعة القرن العشرين وربما الواحد والعشرين. فقد أثار هاجس «المرض الهولندي» اقتصاديَّ النرويج، إذ إن ازدهار قطاع التصدير النفطي يؤدي إلى نقل عوامل الإنتاج من قطاع الصناعات التحويلية إلى القطاع النفطي، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي مع بروز فقاعة اقتصادية في شكل رفاه استهلاكي، تؤثر بشكل خطير على قطاع الإنتاج المحلي للسلع ما يضخم الأسعار بسبب ثبات مؤشر العرض. ويؤدي هذا الأمر أيضاً إلى زيادة الواردات على حساب الصادرات، وهو بدوره يخلخل الميزان التجاري على المدى القصير ويحدث ضعضعة في آليات الاقتصاد على المستوى الطويل، خصوصاً عندما يُضرب المورد الأوحد لمثل هذا النوع من الاقتصاديات المعروف باقتصاد الريع.
لكي لا يحدث هذا السيناريو، أوجدت الاستشارات التي طلبتها الحكومة النرويجية من الخبراء الاقتصاديين الوطنيين حلاً مبدعاً تمثل فيما عُرف بـ«صندوق التقاعد» الذي استقطب العوائد النفطية ووجهها إلى الاستثمار في قطاعات خارجية مختلفة عن تلك المعهودة في الاقتصاد النرويجي بغية تحقيق أمرين، اكتفاء ذاتي نسبي من جهة وربحية استثمارية من جهة أخرى، يـُصيـَّـر سنوياً منها ما لا يتجاوز الـ4% إلى الموازنة العامة. هذه الآلية الاستثمارية جعلت الصندوق يحوز ما يصل إلى 330 مليار دولار عام 2007، علماً بأن الفترة الزمنية لهذه الغلة لم تبلغ العقدين، إذ بدأت عام 1990.
إضافةً إلى ذلك كله، أصبحت النرويج من دولة مصدرة للنفط إلى دولة مصنعة للتكنولوجيات النفطية، كما أنها تملك اليوم مراكز أبحاث وعلوم في هذا المجال تضارع في جودتها نظائرها الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان.
في شأن معاكس تماماً، تبرز تجربة مخلفات الطيور البيروانية، ففي مجموعة جزر تابعة لدولة البيرو، أدى تجمع لطيور نادرة إلى تكدس أطنان من مخلفاتها التي اكتشفت السلطات البريطانية في القرن التاسع عشر أنها مناسبة كمصدر للطاقة، خصوصاً أنها رخيصة الكلفة وسهلة الاستعمال. هذا الأمر أدى إلى وجود مصدر ربحي وافر للسلطات الحاكمة في البيرو التي أخذت ممارساتها في التعامل مع هذا الإيراد، تخلق فقاعة اقتصادية قوامها الزيادة في الاقتراض الخارجي لرفع مستوى الرفاه اعتماداً على دخل «المخلفات». لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي عام 1865 أعلنت البيرو إفلاسها نظراً لسقوط «مخلفات» الطيور من قائمة مصادر الطاقة المطلوبة دولياً.
انتهى المثالان ويبقى الواقع في مملكة كالبحرين ينضح بأحد خياريه، تجربة الاستثمار النرويجية أم تجربة المخلفات البيروانية؟
* باحث قانوني واقتصادي