اثنان اختارا أن ينفصلا عن بعضهما خطأ. المثقف والجماهير. ليس، فقط، في عالمنا العربي / الثالث الذي نتذرع دائماً بعدده الرتبي لنلقي عليه بلائمة خيباتنا وعجزنا، بل حتى في الغرب الذي كان المثقف فيه رائد التنوير، وصاحب المنهج، ومجدد الفلسفات. ومغير اتجاه السياسات. وليست السلطات السياسية والدينية والاجتماعية هي التي على خلاف، وحدها، مع المثقف. ولكن المثقف «المسكين، وأحياناً المتقوقع» يعيش أزمة مع جماهيره، أو القاعدة الشعبية المستهلكة للثقافة.
يقع مفهوم الجماهير في مساحة شاسعة ومتناقضة تتناول معناه وتتداوله. بين الفكر اليساري الماركسي الذي عرف الجماهير بأنها «صانعة التاريخ» ومغيرته بقدرتها الضاغطة ومواقعها الطبقية المسيطرة على العمل والمجال الاجتماعي. وأن وظيفة المثقف هي تعبئة الجماهير وقيادتها وتوجيهها في اتجاه «الثورة الاجتماعية»، وبين السسيولوجيا البنيوية التي رأت في الجماهير حراكاً معادياً «للنظام»، ووصفتهم بالرعاع والغوغاء والهمجية. وضربت لذلك أمثلة بحالة الجنون التي تنتاب الجماهير بعد تعبئتها بخطاب زعيم سياسي أو ديني، وحالة الهيجان التي تعتري الجماهير المشجعة للفنانين والفرق الرياضية. وإذا انحزنا إلى المفهوم الماركسي فإن الجماهير استشعرت أنها منيت بخيبات كبيرة من المثقفين الذين شحنوا وجدانها بمثاليات لم يتمكن حراكهم من تحقيقها، ومن عجز تلك الأفكار عن الصمود أمام القوى «المادية» المهيمنة على العالم وأخطرها «رأس المال». لذلك تفككت الجماهير شيئاً فشيئاً من احتشادها حول المثقف، وانصرفت لشأنها. ثم دخلت الجماهير عصر الذاتية وأصيب طيف كبير منها بالنرجسية وتبنى كل فرد رأيه وموقفه وأحياناً دون قراءة كتاب أو مقال، ودون تحليل أو دراسة، فتحقق المفهوم البنيوي للجماهير فصرنا نعيش أحيانا في سياق ثقافي «همجي» وغوغائي يسوده بعض الجهلة والمأجورين من الذين لا علاقة لهم بالثقافة.
أما المثقف، فبعد انتصار كل السلطات في معاركها ضده، وأقساها معركة لقمة العيش والحياة الاجتماعية المريحة. وبعد سقوط كل المشاريع التي انتمى إليها ودافع عنها، فقد أصبح يعاني من التهميش الرسمي والشعبي. في بادئ الأمر انزوى المثقفون في نخبٍ تمثلهم وتستبعد الجماهير أو العامة التي لم يعد يليق بها الخطاب النوعي للمثقفين. ثم تفككت النخب الثقافية هي الأخرى بفعل الصراعات الفكرية التي كانت أصداء لصراعات سياسية واجتماعية وصار كل مثقف يغني في فضائه لوحده. فبرزت ظواهر ثقافية/إنسانية تهدد كيان المثقف مثل دخول بعضهم في العزلة الاختيارية وإصابتهم بالاكتئاب وأحياناً انتحار بعضهم، وخضوع بعض للتدجين من قبل السلطة ولصالحها. فاتسعت مسافة عدم الثقة بين المثقف والجماهير.
مازال أغلب المثقفين يعيشون بوصفهم نخبويين. الهوة الكبيرة التي تتسع يوماً بعد يوم بينهم وبين «الناس»، عمقت حالة الانفصال بين المثقف والمجتمع. أخطر أزمة يعيشها المثقفون اليوم هو عجزهم عن مواجهة الكوارث الكبرى التي نعيشها خصوصاً أزمة الديمقراطية والشراكة السياسية والمجتمعية وكوارث الحروب والصراعات الداخلية والإقليمية وانهيار القيم الإنسانية وعلى رأسها قيمة إنسانية الإنسان. ومن السذاجة القبول بذريعة فصل المثقف والعمل الثقافي عن السياسة، فالسياسة بوصفها مجموعة أفكار وتصورات هي نتاج ثقافي، وليست فكراً مقدساً متعالياً أو خصوصية اجتماعية ضيقة!! هذا الحال أدى إلى انكشاف المثقفين أكثر أمام الجماهير حيث أظهرت أن المثقف ليس إلا فرداً من بينهم لا يملك مشروعاً فكرياً ولا إصلاحياً ولا قدرة لديه لطرح أفكار تغير هذا الواقع. بالتالي.. ما مبرر تفرده أو تميزه عنهم في الزمن الذي أصبحت فيه كل المعارف والمعلومات مضغوطة في كتب وأفلام يقبض عليها أي إنسان بين كفه على جهاز إلكتروني؟!
أحيانا تشعر أن المثقف يتصرف وكأنه كائن علوي، أو على الأقل، ينظر إلى الأرض من سطح منزله «هذا كي لا نستخدم تعبير البرج العالي القديم والمستهلك». أضف إلى ذلك احتلال فئات كثيرة موقع «التأثير» الذي خسره المثقف مثل المطربين والمغردين ومشاهير وسائل التواصل الاجتماعي. المثقف صار أشبه بالكتاب المصفوف على الرف.. قلة هم الذين يمدون أيديهم ليلتقطوه. وقلة هم المثقفون الذين رغبوا في البقاء وسط صخب المجتمع دون أن يفقدوا سماتهم النوعية. ودون أن يتورطوا مع السلطات الضابطة للإيقاع الاجتماعي الذي قد لا يؤمن به المثقف. قلة من المثقفين تمكنت من ممارسة الدور «النقدي أو الرسولي» مستفيدة من المنجز الحضاري التقني والفني. قلة من المثقفين من حافظت على العيش الثقافي المشترك مع مختلف فئات المجتمع، دون تعالٍ وبسعة صدر، مع الآراء المخالفة غير المنهجية والانفعالية والفئوية. وهذه هي وظيفة المثقف قديماً وحاضراً. وفي مواجهة واقع اجتماعي يجهر بأن المثقف لم يعد يمثل المجتمع.
يقع مفهوم الجماهير في مساحة شاسعة ومتناقضة تتناول معناه وتتداوله. بين الفكر اليساري الماركسي الذي عرف الجماهير بأنها «صانعة التاريخ» ومغيرته بقدرتها الضاغطة ومواقعها الطبقية المسيطرة على العمل والمجال الاجتماعي. وأن وظيفة المثقف هي تعبئة الجماهير وقيادتها وتوجيهها في اتجاه «الثورة الاجتماعية»، وبين السسيولوجيا البنيوية التي رأت في الجماهير حراكاً معادياً «للنظام»، ووصفتهم بالرعاع والغوغاء والهمجية. وضربت لذلك أمثلة بحالة الجنون التي تنتاب الجماهير بعد تعبئتها بخطاب زعيم سياسي أو ديني، وحالة الهيجان التي تعتري الجماهير المشجعة للفنانين والفرق الرياضية. وإذا انحزنا إلى المفهوم الماركسي فإن الجماهير استشعرت أنها منيت بخيبات كبيرة من المثقفين الذين شحنوا وجدانها بمثاليات لم يتمكن حراكهم من تحقيقها، ومن عجز تلك الأفكار عن الصمود أمام القوى «المادية» المهيمنة على العالم وأخطرها «رأس المال». لذلك تفككت الجماهير شيئاً فشيئاً من احتشادها حول المثقف، وانصرفت لشأنها. ثم دخلت الجماهير عصر الذاتية وأصيب طيف كبير منها بالنرجسية وتبنى كل فرد رأيه وموقفه وأحياناً دون قراءة كتاب أو مقال، ودون تحليل أو دراسة، فتحقق المفهوم البنيوي للجماهير فصرنا نعيش أحيانا في سياق ثقافي «همجي» وغوغائي يسوده بعض الجهلة والمأجورين من الذين لا علاقة لهم بالثقافة.
أما المثقف، فبعد انتصار كل السلطات في معاركها ضده، وأقساها معركة لقمة العيش والحياة الاجتماعية المريحة. وبعد سقوط كل المشاريع التي انتمى إليها ودافع عنها، فقد أصبح يعاني من التهميش الرسمي والشعبي. في بادئ الأمر انزوى المثقفون في نخبٍ تمثلهم وتستبعد الجماهير أو العامة التي لم يعد يليق بها الخطاب النوعي للمثقفين. ثم تفككت النخب الثقافية هي الأخرى بفعل الصراعات الفكرية التي كانت أصداء لصراعات سياسية واجتماعية وصار كل مثقف يغني في فضائه لوحده. فبرزت ظواهر ثقافية/إنسانية تهدد كيان المثقف مثل دخول بعضهم في العزلة الاختيارية وإصابتهم بالاكتئاب وأحياناً انتحار بعضهم، وخضوع بعض للتدجين من قبل السلطة ولصالحها. فاتسعت مسافة عدم الثقة بين المثقف والجماهير.
مازال أغلب المثقفين يعيشون بوصفهم نخبويين. الهوة الكبيرة التي تتسع يوماً بعد يوم بينهم وبين «الناس»، عمقت حالة الانفصال بين المثقف والمجتمع. أخطر أزمة يعيشها المثقفون اليوم هو عجزهم عن مواجهة الكوارث الكبرى التي نعيشها خصوصاً أزمة الديمقراطية والشراكة السياسية والمجتمعية وكوارث الحروب والصراعات الداخلية والإقليمية وانهيار القيم الإنسانية وعلى رأسها قيمة إنسانية الإنسان. ومن السذاجة القبول بذريعة فصل المثقف والعمل الثقافي عن السياسة، فالسياسة بوصفها مجموعة أفكار وتصورات هي نتاج ثقافي، وليست فكراً مقدساً متعالياً أو خصوصية اجتماعية ضيقة!! هذا الحال أدى إلى انكشاف المثقفين أكثر أمام الجماهير حيث أظهرت أن المثقف ليس إلا فرداً من بينهم لا يملك مشروعاً فكرياً ولا إصلاحياً ولا قدرة لديه لطرح أفكار تغير هذا الواقع. بالتالي.. ما مبرر تفرده أو تميزه عنهم في الزمن الذي أصبحت فيه كل المعارف والمعلومات مضغوطة في كتب وأفلام يقبض عليها أي إنسان بين كفه على جهاز إلكتروني؟!
أحيانا تشعر أن المثقف يتصرف وكأنه كائن علوي، أو على الأقل، ينظر إلى الأرض من سطح منزله «هذا كي لا نستخدم تعبير البرج العالي القديم والمستهلك». أضف إلى ذلك احتلال فئات كثيرة موقع «التأثير» الذي خسره المثقف مثل المطربين والمغردين ومشاهير وسائل التواصل الاجتماعي. المثقف صار أشبه بالكتاب المصفوف على الرف.. قلة هم الذين يمدون أيديهم ليلتقطوه. وقلة هم المثقفون الذين رغبوا في البقاء وسط صخب المجتمع دون أن يفقدوا سماتهم النوعية. ودون أن يتورطوا مع السلطات الضابطة للإيقاع الاجتماعي الذي قد لا يؤمن به المثقف. قلة من المثقفين تمكنت من ممارسة الدور «النقدي أو الرسولي» مستفيدة من المنجز الحضاري التقني والفني. قلة من المثقفين من حافظت على العيش الثقافي المشترك مع مختلف فئات المجتمع، دون تعالٍ وبسعة صدر، مع الآراء المخالفة غير المنهجية والانفعالية والفئوية. وهذه هي وظيفة المثقف قديماً وحاضراً. وفي مواجهة واقع اجتماعي يجهر بأن المثقف لم يعد يمثل المجتمع.