كعادة اليمنيين يهربون من واقعهم بالركون إلى الظل ومضغهم أوراق القات، فيتناسون واقع حالهم مهما كان عليه من سوء، فهذه طبيعة من طبائع اليمنيين بل هي سيكولوجية مكتسبة عبر قرون بعيدة أغرقت الشعب في أزمنة بعيدة، فلم يعد اليمنيون يكترثون بما سيأتي عليهم من تبعات لتجاهلهم مشكلة اليوم وتأجيلها إلى يوم آخر يعودون فيه إلى ممارسة ذات طقوسهم بالهروب من استحقاق معالجة أزمتهم حتى تتراكم.
هذا الحال يعيش فيه المنشغلون بالسياسة التي تعدّ مجالا شاغرا لممارسة الفساد بحصانة وحماية من السلطة الحاكمة، وهكذا يمارس السياسي اليمني حياته بتوزيع الشعارات وتمرير الصفقات ثم توريث المناصب على أبنائه وأحفاده. اليمن بلد فاشل بامتياز، كل هذا ليس فيه افتراء بل هو واقع اليمن الصحيح.
في مطلع العام 2018 أصدرت مجموعة الخبراء التابعة للأمم المتحدة تقريرها السنوي عن الجمهورية اليمنية، بحكم أن اليمن يقع تحت طائلة الفصل السابع، أي تحت الوصاية الدولية منذ عام 2014. وجاء في التقرير وصف للشرعية بأنها متآكلة، بمعنى أنها لم تعد قادرة على تأدية وظائفها الأساسية، وهو تعريف للدولة الفاشلة التي فقدت سيطرتها المادية على أراضيها وتتآكل سلطتها الشرعية وغير قادرة على توفير الخدمات العامة.
المذهل أن لا أحد في الرئاسة اليمنية أو الحكومة تجرأ على الرد بما أوردته الأمم المتحدة حتى وهي ترى الأمين العام أنطونيو غوتيريس يعتمد التقرير ويقوم بتوزيعه على دول الوصاية على اليمن، والأكثر من ذلك أن أحداث يناير 2018 بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة أثبتت ما جاء من تآكل الشرعية بثبوت ضعف السلطة والعجز عن توفير الخدمات.
لا تتورع كل الأطراف السياسية أو القبلية أو حتى الطائفية في اليمن عن إدعاء أنها تتطلع نحو الدولة المدنية، وأن غايتها تستهدف إحلال التنمية المجتمعية والاقتصادية وهي ذاتها تفتقد لأدنى درجات المسؤولية الأخلاقية. فهذه القوى سواء الفردية أو الجماعية هي المسؤولة عما وصل إليه اليمن نتيجة انتهـاجها منهجيات الإقصاء بكل درجاته، وأكثر ما يصدم في اليمن هو غياب الوعي السياسي، فمنذ ثورة 1962 شمالا و1963 جنوبا، تم استثمار السياسة لمصلحة القوى غير الوطنية وإن تشدّقت بالوطنية.
كان انقلاب الحوثيين في سبتمبر 2014 هو منتهى ما يمكن أن يصل إليه اليمن، ومن المؤسف أن لا قوى وطنية ظهرت لتتحمل مسؤولية إخراج البلد من القاع الذي وصل إليه. غياب التكنوقراط والآلاف من خريجي الجامعات وحاملي المؤهلات العلمية يعكس حقيقة صادمة أن اليمن مازال يعيش في زمن القبيلة، وأن كافة التحولات التي غيرت وجه العالم عبر القرون المتعددة لم تصل إلى اليمن حتى الآن، حيث مازالت القبيلة تمسك بكل شيء حتى وإن تقاسم معها المعتنقون للمذاهب الدينية، تبقى القبيلة تمارس سلطة الاستبداد عبر أبنائها الذين افتعلوا الثورة “السبتمبرية” ثم أدخلوها تحت عباءة شيخ القبيلة الحاشدية.
هذا الوضع ساد في جنوب اليمن كما في شماله، حيث تم تحويل عدن بعد الاستقلال في نوفمبر 1967 إلى قرية بسياسات القبليين الماركسيين، وما حدث في الشمال حدث أيضا في الجنوب، فكما تزاوجت القبيلة مع الدولة تزاوجت القبيلة مع اليسارية، والمحصلة وإن كانت أقل سوءا جنوبا إلا أنها حشدت الرجال وشحنت البنادق فكانت حرب الرفاق في يناير من العام 1986، كشفا لغطاء الخديعة بأن لا وجود للدولة وأن القبيلة والمناطقية هما اللتان استحكمتا بالبلاد عبر شعارات اليسارية التي تمزقت في حرب ضروس لم تفرّق بين أحد.
حتى مع وقوع اليمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة منذ فبراير 2014، لم تستطع كل الدول الوصية عليه أن تصل إلى الطريقة التي تجمع اليمنيين المتناحرين على كل التفاصيل، فلا الولايات المتحدة بقوتها استطاعت، أو حتى بريطانيا بما تملكه من إرث استعماري عرفت كيف تخترق جدران اليمن المتشظي، وقد يكون هذا ما قد يعطي للقوى اليمنية المزيد من النفس لمواصلة العبث الذي اعتادت عليه، فمعركة المصالح الغربية وجدت في اليمنيين أرضا لتواصل بدورها الانتهازية في سوق الانتهازيين اليمنيين.
مشكلة اليمن الكبرى كامنة في غياب المشاريع الوطنية، فعدم القدرة على الانتقال من دولة القبيلة وقف سدا أمام كل الذين اجتهدوا لوضع ملامح للدولة المدنية.
المجتهدون ظلوا متهمين بالخيانة من قبل المستحكمين بالأحزاب السياسية التي هي امتداد لمشايخ القبائل، وزعماء الطوائف تحصنوا بهذه الأحزاب، فهي فروع من أشجارهم التي تبقي اليمن بجنوبه وشماله ضمن حصصهم وفسادهم، لذلك لم يجد التكنوقراط فرصة للنفوذ إلى معالم السياسة والتأثير الإيجابي فيها.
إذن ماذا بعد الدولة الفاشلة؟ استنهاض اليمن لن يكون عبر الأدوات المُجرّبة التي استهلكت كافة الفرص الممكنة والتي تسببت في وصول اليمن إلى ما وصل إليه، ولن تكون هناك فرصة لمستقبل آمن ومغاير عن الحال الراهن بغير أن تتقدم منظمة الأمم المتحدة أو الدول الإقليمية برؤى واضحة المعالم لليمن القادم. وهذه الرؤى تبدأ من تحديد إن كان الإقليم العربي مستعدا لاحتواء اليمن ضمن دول مجلس التعاون الخليجي وتقديم مبادرات اقتصادية تؤهل اليمن، أو أن يُترك اليمن ليذهب إلى القرن الأفريقي بإنشاء جسر النور الذي سيربط عدن مع جيبوتي، وبهذه الخطوة تتحدد ملامح اليمن في القرن الحادي والعشرين.
لليمن تجارب شحيحة لم تجد دعما مع حكومات التكنوقراط بداية من حكومة فرج بن غانم (1997-1998)، وإلى حكومة خالد بحاح (2014-2016)، ولعل من المهم للخروج من التجارب الفاشلة التي اعتمدت المحاصصة في الحكومة العودة إلى حكومة التكنوقراط ومنحها الدعم الدولي والإسناد المباشر من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة تحديدا، مع تقديم برامج تنموية شاملة بمستويات منظورة المدى ومتوسطة لإنعاش الاقتصاد المنهار كليا.
هذه مرحلة تتطلب قرارات شجاعة تبدأ من الأوصياء على هذا البلد الفاشل والمتوثب لحروب أخرى طالما لم تقدم له حلول تجعله يترك السلاح ويتجه إلى اهتمامات إيجابية تجعل من اليمن رافدا اقتصاديا، بدلا من أن يكون محرقة اقتصادية لنفسه ولجيرانه.
* نقلا عن صحيفة العرب
هذا الحال يعيش فيه المنشغلون بالسياسة التي تعدّ مجالا شاغرا لممارسة الفساد بحصانة وحماية من السلطة الحاكمة، وهكذا يمارس السياسي اليمني حياته بتوزيع الشعارات وتمرير الصفقات ثم توريث المناصب على أبنائه وأحفاده. اليمن بلد فاشل بامتياز، كل هذا ليس فيه افتراء بل هو واقع اليمن الصحيح.
في مطلع العام 2018 أصدرت مجموعة الخبراء التابعة للأمم المتحدة تقريرها السنوي عن الجمهورية اليمنية، بحكم أن اليمن يقع تحت طائلة الفصل السابع، أي تحت الوصاية الدولية منذ عام 2014. وجاء في التقرير وصف للشرعية بأنها متآكلة، بمعنى أنها لم تعد قادرة على تأدية وظائفها الأساسية، وهو تعريف للدولة الفاشلة التي فقدت سيطرتها المادية على أراضيها وتتآكل سلطتها الشرعية وغير قادرة على توفير الخدمات العامة.
المذهل أن لا أحد في الرئاسة اليمنية أو الحكومة تجرأ على الرد بما أوردته الأمم المتحدة حتى وهي ترى الأمين العام أنطونيو غوتيريس يعتمد التقرير ويقوم بتوزيعه على دول الوصاية على اليمن، والأكثر من ذلك أن أحداث يناير 2018 بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة أثبتت ما جاء من تآكل الشرعية بثبوت ضعف السلطة والعجز عن توفير الخدمات.
لا تتورع كل الأطراف السياسية أو القبلية أو حتى الطائفية في اليمن عن إدعاء أنها تتطلع نحو الدولة المدنية، وأن غايتها تستهدف إحلال التنمية المجتمعية والاقتصادية وهي ذاتها تفتقد لأدنى درجات المسؤولية الأخلاقية. فهذه القوى سواء الفردية أو الجماعية هي المسؤولة عما وصل إليه اليمن نتيجة انتهـاجها منهجيات الإقصاء بكل درجاته، وأكثر ما يصدم في اليمن هو غياب الوعي السياسي، فمنذ ثورة 1962 شمالا و1963 جنوبا، تم استثمار السياسة لمصلحة القوى غير الوطنية وإن تشدّقت بالوطنية.
كان انقلاب الحوثيين في سبتمبر 2014 هو منتهى ما يمكن أن يصل إليه اليمن، ومن المؤسف أن لا قوى وطنية ظهرت لتتحمل مسؤولية إخراج البلد من القاع الذي وصل إليه. غياب التكنوقراط والآلاف من خريجي الجامعات وحاملي المؤهلات العلمية يعكس حقيقة صادمة أن اليمن مازال يعيش في زمن القبيلة، وأن كافة التحولات التي غيرت وجه العالم عبر القرون المتعددة لم تصل إلى اليمن حتى الآن، حيث مازالت القبيلة تمسك بكل شيء حتى وإن تقاسم معها المعتنقون للمذاهب الدينية، تبقى القبيلة تمارس سلطة الاستبداد عبر أبنائها الذين افتعلوا الثورة “السبتمبرية” ثم أدخلوها تحت عباءة شيخ القبيلة الحاشدية.
هذا الوضع ساد في جنوب اليمن كما في شماله، حيث تم تحويل عدن بعد الاستقلال في نوفمبر 1967 إلى قرية بسياسات القبليين الماركسيين، وما حدث في الشمال حدث أيضا في الجنوب، فكما تزاوجت القبيلة مع الدولة تزاوجت القبيلة مع اليسارية، والمحصلة وإن كانت أقل سوءا جنوبا إلا أنها حشدت الرجال وشحنت البنادق فكانت حرب الرفاق في يناير من العام 1986، كشفا لغطاء الخديعة بأن لا وجود للدولة وأن القبيلة والمناطقية هما اللتان استحكمتا بالبلاد عبر شعارات اليسارية التي تمزقت في حرب ضروس لم تفرّق بين أحد.
حتى مع وقوع اليمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة منذ فبراير 2014، لم تستطع كل الدول الوصية عليه أن تصل إلى الطريقة التي تجمع اليمنيين المتناحرين على كل التفاصيل، فلا الولايات المتحدة بقوتها استطاعت، أو حتى بريطانيا بما تملكه من إرث استعماري عرفت كيف تخترق جدران اليمن المتشظي، وقد يكون هذا ما قد يعطي للقوى اليمنية المزيد من النفس لمواصلة العبث الذي اعتادت عليه، فمعركة المصالح الغربية وجدت في اليمنيين أرضا لتواصل بدورها الانتهازية في سوق الانتهازيين اليمنيين.
مشكلة اليمن الكبرى كامنة في غياب المشاريع الوطنية، فعدم القدرة على الانتقال من دولة القبيلة وقف سدا أمام كل الذين اجتهدوا لوضع ملامح للدولة المدنية.
المجتهدون ظلوا متهمين بالخيانة من قبل المستحكمين بالأحزاب السياسية التي هي امتداد لمشايخ القبائل، وزعماء الطوائف تحصنوا بهذه الأحزاب، فهي فروع من أشجارهم التي تبقي اليمن بجنوبه وشماله ضمن حصصهم وفسادهم، لذلك لم يجد التكنوقراط فرصة للنفوذ إلى معالم السياسة والتأثير الإيجابي فيها.
إذن ماذا بعد الدولة الفاشلة؟ استنهاض اليمن لن يكون عبر الأدوات المُجرّبة التي استهلكت كافة الفرص الممكنة والتي تسببت في وصول اليمن إلى ما وصل إليه، ولن تكون هناك فرصة لمستقبل آمن ومغاير عن الحال الراهن بغير أن تتقدم منظمة الأمم المتحدة أو الدول الإقليمية برؤى واضحة المعالم لليمن القادم. وهذه الرؤى تبدأ من تحديد إن كان الإقليم العربي مستعدا لاحتواء اليمن ضمن دول مجلس التعاون الخليجي وتقديم مبادرات اقتصادية تؤهل اليمن، أو أن يُترك اليمن ليذهب إلى القرن الأفريقي بإنشاء جسر النور الذي سيربط عدن مع جيبوتي، وبهذه الخطوة تتحدد ملامح اليمن في القرن الحادي والعشرين.
لليمن تجارب شحيحة لم تجد دعما مع حكومات التكنوقراط بداية من حكومة فرج بن غانم (1997-1998)، وإلى حكومة خالد بحاح (2014-2016)، ولعل من المهم للخروج من التجارب الفاشلة التي اعتمدت المحاصصة في الحكومة العودة إلى حكومة التكنوقراط ومنحها الدعم الدولي والإسناد المباشر من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة تحديدا، مع تقديم برامج تنموية شاملة بمستويات منظورة المدى ومتوسطة لإنعاش الاقتصاد المنهار كليا.
هذه مرحلة تتطلب قرارات شجاعة تبدأ من الأوصياء على هذا البلد الفاشل والمتوثب لحروب أخرى طالما لم تقدم له حلول تجعله يترك السلاح ويتجه إلى اهتمامات إيجابية تجعل من اليمن رافدا اقتصاديا، بدلا من أن يكون محرقة اقتصادية لنفسه ولجيرانه.
* نقلا عن صحيفة العرب