ما أعجب هذه الدنيا إنها تطل علينا بمشاهد متناقضة ومفارقات عجيبة، فمشهد كثيراً ما نراه حينما يطل علينا عبر وسائل الإعلام بعض مدعي الاهتمام بقضايا الإنسانية، فلا تفوتهم شاردة ولا واردة من القضايا والأحداث، ويهرفون بما لا يعرفون متغنين بشعارات وعبارات يطلقونها حول العدالة والتعايش ونبذ الطائفية والمساواة بين جميع فئات البشر، وكثيراً ما نسمع عبارات من أفواه هؤلاء ممن منحوا أنفسهم الحق في حمل راية التعايش بين الشعوب تطالب بالعدالة بين أفراد المجتمع على اختلاف أعرافهم حفاظاً على أعراقهم حتى بات موضوع العدالة والتعايش والبعد عن العنصرية والطائفية والتمييز موضوعاً خصباً يتقلده كل من يبحث عن الظهور الاجتماعي وكل من يستجدي أضواء كاميرات الإعلاميين وكل من يبحث عن موضوع يتبناه ليكسب.. لقب "الباحث المختص في..................!!!!!!" وتبدأ القنوات في استضافته واستشفاف رأيه، فنرى مشهداً يعج بالهرج والمرج، فهؤلاء المتشدقون بكلمات وشعارات رنانة مغلفة بأهداف نبيلة وقيم ديموقراطية وعدالة وشفافية وتنموية وإصلاح وهي في حقيقتها ألوان زائفة ليست إلا!!! ولا نرى أثراً لتلك الأصوات التي تطلق ينعكس على واقع الإنسانية. فقد تكون مجرد وسيلة للتواجد الإعلامي والسياسي لغايات شخصية، فما هي إلا شعارات ظاهرها البحث عن العدالة ونبذ التمييز وباطنها استجداء المصالح على أشلاء الأطفال والنساء. وأتمنى ألا أكون قد بالغت في قراءة سوداوية لهذا المشهد!!!
وأحياناً نقرأ في هذا المشهد صورة من يعلو صوته بمثل تلك المزايدات هو نفسه في قمة التناقض بين ممارساته وهذه المزايدات، ومنهم من يخرج ببيانات التنديد والاستنكار والمطالبة بالحقوق المهضومة والمنادي بالقيم والمبادئ الدستورية والثوابت الدينية وهو في حقيقة الأمر لا يمت لتلك القيم بأي صلة وهدفه الأساسي الحصول علي «واجهات اجتماعية وإعلامية» يبهرون بها عيون وعقول البسطاء. ونبحث في نهاية هذا المشهد بعد أن سمعنا هذه الأصوات عن أثرها على أحوال الناس فلا نجد لها أثراً. فنكتشف أن رجاءنا كان سراباً.
وما جمال تلك الكلمات والشعارات إلا كجمال الألعاب النارية تعلو في السماء وتبرق في الفضاء وتضيء الظلام وتتعلق بها أنظار الصغار والكبار وترتفع الأيادي لها بالتصفيق وما هي إلا ثوانٍ وتختفي تلك الأضواء ولا تترك أثراً لها في السماء ولا في الأرض، كذلك هي شعارات المنادين بالعدالة والتعايش بين فئات الناس ونبذ العنصرية والتمييز والطائفية تنطلق وتختفي ولا تترك أثراً، فالتمييز والاضطهاد يزداد انتشاراً في العالم كلما علت تلك الأصوات ولا أريد أن أسيء الظن فلعل هذه الأصوات مجرد قرع طبول لتختفي بأصواتها العالية أصوات أنين المضطهدين ومن يعانون من جراح التمييز، وصراخ ضحايا الحروب وآلام من يسكن الخيام، واستغاثة الثكالى واليتامى.
ولكن هناك مشهد آخر تجده في أماكن كثيرة يجعلنا نشعر أن الكرة الأرضية مازالت تحمل على سطحها أناساً رحماء يعرفون معنى الإنسانية، فكن متفائلاً وابحث معي عن هذا المشهد فحتماً ستجده في أماكن عدة، ولعل أحد تلك الأماكن التي ستجد فيها ضالتك يكون بين جدران بعض المؤسسات. ذلك المشهد يقدم التعايش في أرقي صوره والعدالة والحيادية في أصدق تعبير وفي الوقت ذاته هم لا يتشدقون بقصة نجاح صناعة التعايش والبعد عن التمييز مع أنهم يحققونه في أمثل وأبهى صوره لأنهم يعتبرون التعايش وعدم التمييز فطرة وطبيعة بشرية، وهي أخلاق وقيم مغروسة بداخلنا وتعد سمة من سمات الإنسانية فهم ليسوا بحاجة للتشدق بها.
سادتي الكرام... إن كنتم تبحثون عن دروس في التعايش والبعد عن التمييز ستجدونها في فرق عمل تجمعها أهداف مشتركة. تجدونها في الفرق الرياضية التي تتطلع لتحقيق التمييز والفوز لأنديتها، وفي الفرق الطبية التي تجتمع لإجراء عملية لمريض يصبو للحياة، وفي فرق الإنقاذ من الحريق أو الغرق أو غيرها من الحوادث، كما تجدونها في فرق العمل بمراكز البحوث التي يعكف فيها الباحثون لاكتشاف دواء وعلاج ينقذ حياة المئات من البشر أو إنجاز علمي يسعد البشرية، ولا تخلو منها المصانع والشركات التي تجتهد لتحقيق الأرباح والوصول للنجاح والعالمية. وزد من عندك عزيزي القارئ ما شئت.
كل هذه الفرق تجتمع لتحقيق أهدافها فنجد أعضاء الفريق الواحد مختلفين في الأعراق مختلفين في الديانات ومختلفين في الأصول وفي اللون، إلا أن أعضاء الفريق أرقي وأسمي من أن يلتفتوا لمثل هذا الاختلاف أو ينشغلوا به أو حتى يفكروا به، فنجد أعضاء الفريق على اختلافاتهم يحترمون عقيدة بعضهم بعضاً وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم بل وحتى لون بشرتهم، لا لشيء بل لأنهم مشغولون بقضايا أهم وأهداف أسمي تستحق بذل الجهد، هم مشغولون بتحقيق أهدافهم المشتركة، فالفريق الرياضي يتكاتف لتحقيق الفوز ورفع علم فريقه، والفريق الطبي غايته علاج المرضى وشفاؤهم، وأعضاء فرق الإنقاذ لا يشغلون أنفسهم بسؤال المصابين عن ديانتهم، وأعراقهم ولونهم، فهم يتنزهون عن هذه الأسئلة اللاإنسانية، فهم يتعاملون مع المصابين بمعاني الإنسانية وبكل حيادية، أما مراكز الأبحاث والمصانع فهمهم الأكبر استقطاب العقول المبدعة العبقرية ولا تلتفت إلى ما سوى ذلك لتصل إلى تحقيق هدفها.
إن مبدأ وحدة التعامل الإنساني يضرب وتراً حساساً لمبدأ العدالة والتعايش، فهو ليس مجرد طريقة للبحث عن الاتصاف بالمثالية ولكنه يعكس حقيقة يجب أن ندركها ونعمل من خلالها، وهذا يتطلب الاتفاق على أهداف مشتركة ليصبح المجتمع متلاحماً في أفكاره وتطلعاته وعطائه، وفي هذه الحال سيصب هدفه الأساسي علي البناء والإنتاج والتميز، فلنعمل بروح الفريق الذي يجتمع على هدف واحد، لنرتقي ونصل إلى العطاء الذي يحتاجه البشر دون تمييز، ولننبذ كلمات المتشدقين بشعارات دون العمل بها، فالعطاء الحقيقي هو العطاء المبني على الإنسانية والإيثار والمشاركة الوجدانية، فالعدالة والتعايش الحقيقي أن يكون الإنسان شمعة تضيء للآخرين لينعم بنور تلك الشمعة الجميع، فبالعطاء الإنساني يسود الشعور بالمحبة والأمان والطمأنينة، والعدالة هي خدمة الإنسانية بصرف النصر عن عقيدة أو لون أو...أو.... أجارنا الله وإياكم ممن يعشقون القيل والقال وينأون بأنفسهم عن العطاء!!!! ودمتم أبناء قومي سالمين.