كل الشعوب تعرف قيمة كل إنجاز بشري من أبناء شعبها وضع لبنة في بنائها الحضاري ولا تفرط فيه، إلا نحن.
من مقال الأمس حول «الانتحار التاريخي» الذي نقوم به بقصد أو بدون قصد في استهداف حثيث لقتل ذاكرتنا الحية ومحو كل ما يربطنا بماضينا باستهانتنا غريبة بالجرائم التاريخية التي نرتكبها ونحن نقلل من أهمية الذاكرة المكانية الخاصة بنا، تذكرت قصة مبنى «متحف البوليتكنك» الروسي، لأنها قصة تستحق أن تروى كي نعرف كيف تنظر الشعوب لتاريخها المعماري وكيف تقيمه وتعتبره كنزاً وبالمقابل كيف نتعامل نحن مع كنوزنا.
عام 2010 قررت روسيا تجديد وتوسعة وتحديث أكبر وأهم متحف تاريخي بني عام 1872م أي قبل 150 عاماً، وهو مبنى ضخم جداً يقع في العاصمة موسكو، وإضافة لكونه متحفاً للعلوم التطبيقية فهو أيضاً مركز تقام فيه الورش والمحاضرات، وكان قد أضيف له جناح كامل عام 1896 ثم جرت عليه عدة إضافات زادت من مساحته، ويحتوي المتحف على 160 ألف قطعة أثرية بما فيها أول كومبيوتر روسي وأول تلسكوب فضائي وغيرهم
حين قررت روسيا تحديث المبنى وجعله متحفاً للفن الحديث وزيادة استخدامات المساحة وتوسعته واجهت مشكلة كبيرة تتمثل في ضعف القواعد الأساسية للمبنى وقد لا تتحمل عمليات ترميم والتوسعة المنشودة.
كان من السهل جداً أن يتخذ قرار كالذي نتخذه نحن في البحرين، أن يهدم المبنى ويبنى مبنى مكانه مبنى جديد وعصري ولكن بالنسبة للشعوب التي تعرف قيمة الذاكرة الحية، قيمة المعمارالقديم، كونه شاهداً على عمق جذورها التاريخية فقد رفضوا رفضاً تاماً فكرة الهدم وإعادة البناء، وبقيت المشكلة بكيفية ترميمه دون أن يقع هنا جاءت فكرة عمل مسابقة دولية لمن يتقدم بفكرة تحقق الأغراض الجديدة وهي التوسعة والتحديث ولكنها في نفس الوقت تحافظ على المبنى ولا تغير واجهته.
وتقدم للمسابقة عدة مهندسين بعروضهم وفاز بها المهندس الياباني جونيا ايشغامي (وهو وحده قصة ومشاريعه كلها خارج التوقعات) هذا المهندس التقيته في فرنسا في معرضه الذي عرض فيه مشاريعه التي فاز بها و قام بها في عدة دول، وهناك شرح لنا كيف تقدم بفكرة كانت تبدو جنونية لترميم مبنى المتحف، لكنها هي ما أنقذ المبنى من الانهيار، وكيف قوي قواعد المبنى.
حفر ايشغامي خندقاً حول المبنى، ومنه حفر أنفاقاً تحت مستوى القواعد وتصله بها، ومن تحت القواعد بني قواعد جديدة وثم وصلها بالقديمة وهكذا عمل على تقويتها و شدها حتى تتحمل عملية الترميم، ثم لم يردم الأنفاق والطابق السفلي بل استغله ليكون قاعات عرض جديدة، أما خارج المبنى فجعل من المساحة المضافة متحفاً خارجياً!!
انظروا لحجم الجهد الذي بذل بدلاً من الهدم، انظروا للكلفة المضاعفة فهذه العملية الترميمية كلفت روسيا 246 مليون دولار، ولكنها كانت لا شيء قياساً بالمردود العلمي والسياحي والثقافي لروسيا الذي تجنيه روسيا من هذا المتحف الذي أضيف له عدة قاعات و مسرح كبير و تقام فيه العروض الكبيرة الآن.
الشعب الروسي وغيره من الشعوب التي لها جذور تاريخية ضاربة في عمق الزمن تعرف أن أي شاهد من شواهد تلك الجذور كنز لا يعوض، هذا عالم ينظر أمامه لا ينظر تحت رجليه، لأنه يعرف ماذا سيجني إن كنا نتحدث على المستوى المادي.
أما على المستوى المعنوي، فذلك المبنى شاهد ودليل على مستوى تحضر هذا الشعب عام 1872 وإلى أين وصل، ودليل وصورة حية وتوثيقية لتقدمه المعماري والفني، وهدمه يعد جريمة في حق الشعب الروسي لا يمكن أن يجرؤ أحد على التفكير فيها.
قد لا تكون المباني المراد هدمها في المحرق أو المنامة بضخامة وجمال المبنى الروسي ولكن عمراننا هو كنزنا البحريني الأصيل الذي ورثناه من أجدادنا يحكي قصتهم ومن خلاله نروي للأجيال القادمة ولمن يزورونا كيف عرفنا التعليم وعرفنا التطبيب وعرفنا الغوص وعرفنا التجارة وعرفنا الصناعة وكيف كان عندنا بلديات ورصفنا الشوارع وفي أي عام ومتى وكان عندنا وكان عندنا.. لا يمكن أن أروي حكايتي دون شواهدي دون رائحة المكان دون وجود حجارته دون طينه الذي اختلط بعرقي... مالكم كيف تحكمون؟
من مقال الأمس حول «الانتحار التاريخي» الذي نقوم به بقصد أو بدون قصد في استهداف حثيث لقتل ذاكرتنا الحية ومحو كل ما يربطنا بماضينا باستهانتنا غريبة بالجرائم التاريخية التي نرتكبها ونحن نقلل من أهمية الذاكرة المكانية الخاصة بنا، تذكرت قصة مبنى «متحف البوليتكنك» الروسي، لأنها قصة تستحق أن تروى كي نعرف كيف تنظر الشعوب لتاريخها المعماري وكيف تقيمه وتعتبره كنزاً وبالمقابل كيف نتعامل نحن مع كنوزنا.
عام 2010 قررت روسيا تجديد وتوسعة وتحديث أكبر وأهم متحف تاريخي بني عام 1872م أي قبل 150 عاماً، وهو مبنى ضخم جداً يقع في العاصمة موسكو، وإضافة لكونه متحفاً للعلوم التطبيقية فهو أيضاً مركز تقام فيه الورش والمحاضرات، وكان قد أضيف له جناح كامل عام 1896 ثم جرت عليه عدة إضافات زادت من مساحته، ويحتوي المتحف على 160 ألف قطعة أثرية بما فيها أول كومبيوتر روسي وأول تلسكوب فضائي وغيرهم
حين قررت روسيا تحديث المبنى وجعله متحفاً للفن الحديث وزيادة استخدامات المساحة وتوسعته واجهت مشكلة كبيرة تتمثل في ضعف القواعد الأساسية للمبنى وقد لا تتحمل عمليات ترميم والتوسعة المنشودة.
كان من السهل جداً أن يتخذ قرار كالذي نتخذه نحن في البحرين، أن يهدم المبنى ويبنى مبنى مكانه مبنى جديد وعصري ولكن بالنسبة للشعوب التي تعرف قيمة الذاكرة الحية، قيمة المعمارالقديم، كونه شاهداً على عمق جذورها التاريخية فقد رفضوا رفضاً تاماً فكرة الهدم وإعادة البناء، وبقيت المشكلة بكيفية ترميمه دون أن يقع هنا جاءت فكرة عمل مسابقة دولية لمن يتقدم بفكرة تحقق الأغراض الجديدة وهي التوسعة والتحديث ولكنها في نفس الوقت تحافظ على المبنى ولا تغير واجهته.
وتقدم للمسابقة عدة مهندسين بعروضهم وفاز بها المهندس الياباني جونيا ايشغامي (وهو وحده قصة ومشاريعه كلها خارج التوقعات) هذا المهندس التقيته في فرنسا في معرضه الذي عرض فيه مشاريعه التي فاز بها و قام بها في عدة دول، وهناك شرح لنا كيف تقدم بفكرة كانت تبدو جنونية لترميم مبنى المتحف، لكنها هي ما أنقذ المبنى من الانهيار، وكيف قوي قواعد المبنى.
حفر ايشغامي خندقاً حول المبنى، ومنه حفر أنفاقاً تحت مستوى القواعد وتصله بها، ومن تحت القواعد بني قواعد جديدة وثم وصلها بالقديمة وهكذا عمل على تقويتها و شدها حتى تتحمل عملية الترميم، ثم لم يردم الأنفاق والطابق السفلي بل استغله ليكون قاعات عرض جديدة، أما خارج المبنى فجعل من المساحة المضافة متحفاً خارجياً!!
انظروا لحجم الجهد الذي بذل بدلاً من الهدم، انظروا للكلفة المضاعفة فهذه العملية الترميمية كلفت روسيا 246 مليون دولار، ولكنها كانت لا شيء قياساً بالمردود العلمي والسياحي والثقافي لروسيا الذي تجنيه روسيا من هذا المتحف الذي أضيف له عدة قاعات و مسرح كبير و تقام فيه العروض الكبيرة الآن.
الشعب الروسي وغيره من الشعوب التي لها جذور تاريخية ضاربة في عمق الزمن تعرف أن أي شاهد من شواهد تلك الجذور كنز لا يعوض، هذا عالم ينظر أمامه لا ينظر تحت رجليه، لأنه يعرف ماذا سيجني إن كنا نتحدث على المستوى المادي.
أما على المستوى المعنوي، فذلك المبنى شاهد ودليل على مستوى تحضر هذا الشعب عام 1872 وإلى أين وصل، ودليل وصورة حية وتوثيقية لتقدمه المعماري والفني، وهدمه يعد جريمة في حق الشعب الروسي لا يمكن أن يجرؤ أحد على التفكير فيها.
قد لا تكون المباني المراد هدمها في المحرق أو المنامة بضخامة وجمال المبنى الروسي ولكن عمراننا هو كنزنا البحريني الأصيل الذي ورثناه من أجدادنا يحكي قصتهم ومن خلاله نروي للأجيال القادمة ولمن يزورونا كيف عرفنا التعليم وعرفنا التطبيب وعرفنا الغوص وعرفنا التجارة وعرفنا الصناعة وكيف كان عندنا بلديات ورصفنا الشوارع وفي أي عام ومتى وكان عندنا وكان عندنا.. لا يمكن أن أروي حكايتي دون شواهدي دون رائحة المكان دون وجود حجارته دون طينه الذي اختلط بعرقي... مالكم كيف تحكمون؟