لا يعتز العرب بواجهة من واجهات هويتهم كما يعتزون باللغة العربية. ولست أعرف إن كانت هناك أمة من الأمم الباقية أو البائدة رفعت من شأن لغتها إلى مرتبة الأساطير وجعلتها ركناً رئيساً من أركان المقدس كما فعل العرب مع العربية. العرب يتفاخرون بغزارة ألفاظ العربية وكثرة علومها وتعدد الآراء والمذاهب في صرفها ونحوها وإيقاعها. إنهم، كذلك، ولخصوصية العربية يشعرون بتفوق نوعي ليس من صنعهم، بل هو نعمة إلهية اصطفى الله، سبحانه وتعالى، العرب بها دون غيرهم من سائر خلقه.
واللغة معيار من معايير الثقافة والحضارة لأي أمة. إذا أردت أن تقيس مستوى ثقافتها ودرجة تحضرها. قِس مؤشراتها اللغوية: مدى انتشار تلك اللغة، كمّ الإنتاج المعرفي بها، الاتجاه نحو الترجمات منها وإليها. إقبال الدارسين على تعلمها. مرونتها وسهولة تطبيقاتها في العلوم. وقبل ذلك: إتقان شعوبها المحلية لها ويسر التعامل بها تحدثاً وكتابة. هناك مثال بسيط كثير التداول في الدراسات الحضارية حول موت اللغات وبعثها. أبسط مثال هو تمكن الإسرائيليين من بعث اللغة العبرية التي كانت في عداد اللغات شبه الميتة التي لا يتقنها كثير من اليهود، ومنهم المتدينون، لتتحول إلى لغة رسمية حية ونشيطة مع تأسيس دولة إسرائيل. مثال آخر في اتجاه معاكس في شبه اندثار اللغة السريانية في بلاد الشام والعراق وبقاء استخدامها في نطاق ضيق جداً لا يكاد يحتسب في رصيد أي لغة. وعلى الرغم من القيمة الدينية لكلتا اللغتين إلا أن المقدس لم يكن له دور في بقائهما أو فنائهما. بل كان للحتميات الحضارية والتاريخية الأثر الأمضى في تغير تاريخهما وحسم مستقبلهما.
وحين نيمم شطر لغتنا سنجد أننا لسنا أصحاب معارف أو اختراعات تعزز وضع لغتنا. وليس الإنتاج الفلسفي أو الأدبي العربي الجيد بالكم المغري حضارياً ليجعل من تلقيها باللغة الأم أمراً مؤثراً في فهمها وتفسيرها والتعبير عنها. لا مسألة «برغماتية» تجعل تعلم العربية في العالم مهارة لازمة للتعايش مع هذا العصر. حتى الاستثمارات الاقتصادية، فإن مراكزها الأساسية هي في الغرب وشرق آسيا، وما يحدث من محاولات تغيير محاورها، يحدث، خارج أي ثقل عربي! لقد صار أمراً طبيعياً، ونحن نستخدم بعض الأجهزة الإلكترونية، أو التطبيقات التكنولوجية، أن نفاجأ بأنها غير مدعمة باللغة العربية أو تعاني من مشكلات في تطبيقها باللغة العربية. وفي مواجهة كل ذلك فإن وعينا الحضاري العربي يدرك بكل يقين تراجع الدور الحضاري للغتنا العربية، فنضطر بكل سلاسة لإتقان لغة أو اثنتين من اللغات الأكثر عملية وانتشاراً. وبعض اللماحين يتعلمون ذاتياً اللغات التي يتفطنون لقيمتها المستقبلية مثل اللغة الصينية أو الكورية أو الألمانية أو الروسية.
ما قيمة ملايين الألفاظ التي نتباهى نحن العرب أن قواميسنا تحويها أمام بضع مئات الآلاف من الألفاظ في قواميس اللغات الأوروبية والآسيوية؟ نحن مثل غيرنا لا نستخدم غير آلاف الألفاظ فقط. في النهاية نحن نقول أسد وليث وغضنفر ونجهل المائة اسم الأخرى للأسد والثعلب والجمل! أما مئات المصنفات في النحو والصرف فقد نفّرت كثيراً من دارسي اللغة العربية لتعددها وتعقدها واحتدام الخلاف بين كوفييها وبصرييها وعلماء باقي الضواحي، وساهمت في لجوء كثير من دارسي العربية من غير الناطقين بها لتعلم العربية باللهجات المحلية لتجنب تحذيرات»قل ولا تقل». وفي القرن الحادي والعشرين علينا أن نعيد قراءة مأساة «القضية الزنبورية» التي أدت إلى موت سيبويه قهراً في خلافه مع الكسائي على ملء من الناس حول «فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها». علينا أن نعيد النظر في إشكالات لغة «أكلوني البراغيث» وتقدير المكان الإعرابي، وألا نقبل بالاحتجاج غير اللغوي لتخطيء من يستخدم كلمة «فترة» بمعنى مدة زمنية، وأن نضع حداً لجرنا إلى جدل لا طائل منه في التفريق بين كلمتي «استخدم واستعمل» وفي الاستخدام المتعدد للخاصية الإبدالية لحروف الجر. تلك التفاصيل كنا نفخر في مرحلة البكالوريوس أنها ستجعلنا من حراس اللغة الصناديد الذين يذودون عن حدودها وأصقاعها وكافة تضاريسها لمنع أي انتهاك لسيادتها وتميزها وتفوقها!! فإذا بنا بعد التفكر في «العقل العربي» نكتشف أنها جزء من التفكير «الأصولي»، ومظهر من مظاهر التزمت الحضاري الذي هو إشكالية خطيرة من إشكالات الثقافة العربية، أعاقتنا كثيراً عن التقدم والتطور والتحرر من أغلال التراث ومحمولاته الإديولوجية.
الأمم التي حدّثت لغاتها وبسطت قواعدها، واستوعبت مقتضيات عصرها الثقافية واللغوية، هي الأمم التي حافظت على لغاتها بين أبنائها، أولاً، ونشرتها بين الراغبين في تعلمها بأقل المتطلبات اللفظية والنحوية. وفي اليوم العالمي للغة العربية، ونحن نحتفي بعظمة لغتنا وثرائها وقداستها وتميزها عن جميع لغات الأرض، علينا، كذلك، أن نتأمل وضعنا الحضاري، ونحدد ترتيب لغتنا النفعي، ودرجة عصرنتها مع واقعنا. علينا أن نتحرر قليلاً من علاقاتنا الوجدانية باللغة العربية، وأن نربطها باحتياجاتنا، نحن، العلمية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الأكاديمية. وتطوير اللغة سيكون حتماً مرتبطاً بتطورنا العلمي. وتغيير تفكيرنا في اللغة سيكون لا محالة جزءاً من إعادة تفكيرنا في العلوم والأشياء والثقافة والفلسفة وإعادة ضبط لعلاقتنا بكل ما حولنا وبالكون كاملاً.
في هذا التوقيت العالمي، فرق كبير بين أن يقف عالم من كوريا الجنوبية ليشرح لنا «بلغته الكورية» آخر تحديثات شركة سامسونج، فيتلقف المترجمون ما يقوله ويعيدون بثه بكل لغات الأرض. وأن يقف فصيح عربي يلقي على مسامعنا، دون أي خطأ نحوي، «لامية العرب للشنفرى» واحدة من أعظم ما قال العرب في تاريخهم الشعري. إنه فرق لو تعلمون عظيم.
واللغة معيار من معايير الثقافة والحضارة لأي أمة. إذا أردت أن تقيس مستوى ثقافتها ودرجة تحضرها. قِس مؤشراتها اللغوية: مدى انتشار تلك اللغة، كمّ الإنتاج المعرفي بها، الاتجاه نحو الترجمات منها وإليها. إقبال الدارسين على تعلمها. مرونتها وسهولة تطبيقاتها في العلوم. وقبل ذلك: إتقان شعوبها المحلية لها ويسر التعامل بها تحدثاً وكتابة. هناك مثال بسيط كثير التداول في الدراسات الحضارية حول موت اللغات وبعثها. أبسط مثال هو تمكن الإسرائيليين من بعث اللغة العبرية التي كانت في عداد اللغات شبه الميتة التي لا يتقنها كثير من اليهود، ومنهم المتدينون، لتتحول إلى لغة رسمية حية ونشيطة مع تأسيس دولة إسرائيل. مثال آخر في اتجاه معاكس في شبه اندثار اللغة السريانية في بلاد الشام والعراق وبقاء استخدامها في نطاق ضيق جداً لا يكاد يحتسب في رصيد أي لغة. وعلى الرغم من القيمة الدينية لكلتا اللغتين إلا أن المقدس لم يكن له دور في بقائهما أو فنائهما. بل كان للحتميات الحضارية والتاريخية الأثر الأمضى في تغير تاريخهما وحسم مستقبلهما.
وحين نيمم شطر لغتنا سنجد أننا لسنا أصحاب معارف أو اختراعات تعزز وضع لغتنا. وليس الإنتاج الفلسفي أو الأدبي العربي الجيد بالكم المغري حضارياً ليجعل من تلقيها باللغة الأم أمراً مؤثراً في فهمها وتفسيرها والتعبير عنها. لا مسألة «برغماتية» تجعل تعلم العربية في العالم مهارة لازمة للتعايش مع هذا العصر. حتى الاستثمارات الاقتصادية، فإن مراكزها الأساسية هي في الغرب وشرق آسيا، وما يحدث من محاولات تغيير محاورها، يحدث، خارج أي ثقل عربي! لقد صار أمراً طبيعياً، ونحن نستخدم بعض الأجهزة الإلكترونية، أو التطبيقات التكنولوجية، أن نفاجأ بأنها غير مدعمة باللغة العربية أو تعاني من مشكلات في تطبيقها باللغة العربية. وفي مواجهة كل ذلك فإن وعينا الحضاري العربي يدرك بكل يقين تراجع الدور الحضاري للغتنا العربية، فنضطر بكل سلاسة لإتقان لغة أو اثنتين من اللغات الأكثر عملية وانتشاراً. وبعض اللماحين يتعلمون ذاتياً اللغات التي يتفطنون لقيمتها المستقبلية مثل اللغة الصينية أو الكورية أو الألمانية أو الروسية.
ما قيمة ملايين الألفاظ التي نتباهى نحن العرب أن قواميسنا تحويها أمام بضع مئات الآلاف من الألفاظ في قواميس اللغات الأوروبية والآسيوية؟ نحن مثل غيرنا لا نستخدم غير آلاف الألفاظ فقط. في النهاية نحن نقول أسد وليث وغضنفر ونجهل المائة اسم الأخرى للأسد والثعلب والجمل! أما مئات المصنفات في النحو والصرف فقد نفّرت كثيراً من دارسي اللغة العربية لتعددها وتعقدها واحتدام الخلاف بين كوفييها وبصرييها وعلماء باقي الضواحي، وساهمت في لجوء كثير من دارسي العربية من غير الناطقين بها لتعلم العربية باللهجات المحلية لتجنب تحذيرات»قل ولا تقل». وفي القرن الحادي والعشرين علينا أن نعيد قراءة مأساة «القضية الزنبورية» التي أدت إلى موت سيبويه قهراً في خلافه مع الكسائي على ملء من الناس حول «فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها». علينا أن نعيد النظر في إشكالات لغة «أكلوني البراغيث» وتقدير المكان الإعرابي، وألا نقبل بالاحتجاج غير اللغوي لتخطيء من يستخدم كلمة «فترة» بمعنى مدة زمنية، وأن نضع حداً لجرنا إلى جدل لا طائل منه في التفريق بين كلمتي «استخدم واستعمل» وفي الاستخدام المتعدد للخاصية الإبدالية لحروف الجر. تلك التفاصيل كنا نفخر في مرحلة البكالوريوس أنها ستجعلنا من حراس اللغة الصناديد الذين يذودون عن حدودها وأصقاعها وكافة تضاريسها لمنع أي انتهاك لسيادتها وتميزها وتفوقها!! فإذا بنا بعد التفكر في «العقل العربي» نكتشف أنها جزء من التفكير «الأصولي»، ومظهر من مظاهر التزمت الحضاري الذي هو إشكالية خطيرة من إشكالات الثقافة العربية، أعاقتنا كثيراً عن التقدم والتطور والتحرر من أغلال التراث ومحمولاته الإديولوجية.
الأمم التي حدّثت لغاتها وبسطت قواعدها، واستوعبت مقتضيات عصرها الثقافية واللغوية، هي الأمم التي حافظت على لغاتها بين أبنائها، أولاً، ونشرتها بين الراغبين في تعلمها بأقل المتطلبات اللفظية والنحوية. وفي اليوم العالمي للغة العربية، ونحن نحتفي بعظمة لغتنا وثرائها وقداستها وتميزها عن جميع لغات الأرض، علينا، كذلك، أن نتأمل وضعنا الحضاري، ونحدد ترتيب لغتنا النفعي، ودرجة عصرنتها مع واقعنا. علينا أن نتحرر قليلاً من علاقاتنا الوجدانية باللغة العربية، وأن نربطها باحتياجاتنا، نحن، العلمية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الأكاديمية. وتطوير اللغة سيكون حتماً مرتبطاً بتطورنا العلمي. وتغيير تفكيرنا في اللغة سيكون لا محالة جزءاً من إعادة تفكيرنا في العلوم والأشياء والثقافة والفلسفة وإعادة ضبط لعلاقتنا بكل ما حولنا وبالكون كاملاً.
في هذا التوقيت العالمي، فرق كبير بين أن يقف عالم من كوريا الجنوبية ليشرح لنا «بلغته الكورية» آخر تحديثات شركة سامسونج، فيتلقف المترجمون ما يقوله ويعيدون بثه بكل لغات الأرض. وأن يقف فصيح عربي يلقي على مسامعنا، دون أي خطأ نحوي، «لامية العرب للشنفرى» واحدة من أعظم ما قال العرب في تاريخهم الشعري. إنه فرق لو تعلمون عظيم.