كيف يمكن لجلجامش أن ينهار فجأة بموت صديقه متسائلاً حينها عن فكرة الخلود؟! منذ 2600 سنة قبل الميلاد بدأ جلجامش يجول أراضٍ شاسعة ووعرة باحثاً عن الخلود، حتى يلتقي برجلٍ حكيم يقترب عمره من الألف عام، ليسأله عن سر خلوده، إلا أنه لم يحظ بالإجابة القاطعة التي ترضي فضوله، حيث إنه كان على يقين أن الخلود ما هو إلا زهرة قابعة بينبوع عذب بقاع البحر المالح بجزيرة دلمون. وفعلاً استطاع جلجامش أن يحظى بتلك الزهرة الفواحة ليحملها إلى مدينته أوروك "الوركاء". إن فكرة الاستدامة مرتبطة بالإنسان الأول حيث إنه كان ومازال يسعى جاهداً لتحقيق فكرة الخلود وذلك مرتبط بقصة البحرين في رحلة الابتكار والتحول من الاقتصاد المعتمد على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد المعرفة والابتكار ضمن مراحل التطور البشري والدورات الحضارية التي ذكرها ابن خلدون.

منذ القرن التاسع عشر بدأت مسيرة التنمية في البحرين، إذ امتازت بكثرة العيون العذبة بها التي جعلتها جزيرة خضراء ولُقبت ببلد المليون نخلة، حيث كان اقتصاد البلد آنذاك معتمداً بشكل أساسي على الموارد الطبيعية من ينابيع العيون العذبة والثروة السمكية واللؤلؤ. وفي عام 1932م تم اكتشاف أول بئر نفط في البحرين، وباشرت شركة بابكو بأنشطة التكرير وبتصدير بعض المنتجات النفطية، والتزمت بتنفيذ نطاقات واسعة من الأنشطة المرتبطة بالطاقة متمثلة بتكرير وتوزيع منتجات النفط والغاز إلى جانب بيع وتصدير النفط الخام ومنتجات المشتقات المكررة وغيرها. وبالتالي فإن اقتصاد البحرين تحول من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى الاعتماد على النفط والغاز الطبيعي.

وفي القرن العشرين بدأ اقتصاد البحرين بتشجيع تنويع مصادر الدخل، وفي هذا الصدد تم افتتاح مكتب ترويج الاستثمار والتكنولوجيا التابع لـ "يونيدو" "UNIDO" في البحرين، وتتمثل مهامه في تعبئة ونقل الموارد بمختلف أنواعها "المالية، التكنولوجية، الفنية والإدارية" من البحرين والمنطقة العربية إلى البلدان النامية. كما قام المكتب الدولي لتنمية الصادرات في البحرين بتطوير برنامج تنمية المشاريع وترويج الاستثمار "EDIP" الذي يهدف إلى تحفيز ظهور مؤسسات جديدة ونمو الشركات القائمة التي تنتج السلع والخدمات للتجارة، وتوفير العمالة والدخل، وبالتالي المساهمة في تطوير النمو الاقتصادي العام.

وفي القرن الواحد والعشرين ومع تطور المجتمعات ونموها أصبح الاقتصاد المبني على المعرفة والابتكار مقياس لمدى تقدم الدول، وعليه فقد أعلنت جامعة الخليج العربي في البحرين وبالتعاون مع معهد القيادة العالمي في كلية بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية عن توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي يركز بشكل رئيسي على توحيد جهود الطرفين وخبراتهما في تعزيز وتطوير الابتكار في دول مجلس التعاون الخليجي من خلال تقديم برنامج الدكتوراه الدولي الجديد في إدارة الابتكار والذي يوفر فرصة مثيرة للطلاب من كل جانب للتفاعل والعمل مع علماء وخبراء الابتكار من مجموعة متنوعة من الخلفيات الثقافية والأكاديمية، وبالتالي ولادة جيل جديد قادر على الابتكار في شتى المجالات ويمتلك المهارات التي تمكنه من المساهمة في الثورة الصناعية الرابعة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة للعقد القادم.

إن جميع ما سبق مرتبط بشكل أو بآخر بخطة التنمية المستدامة لعام 2030، والتي تتمحور حول تحقيق 17 هدفاً، وقد تم تعريف التنمية المستدامة بأنها "التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة". ولتحقيق ذلك لابد من الربط بين ثلاثة عناصر أساسية: النمو الاقتصادي، الإدماج الاجتماعي، وحماية البيئة، من أجل الحفاظ على رفاهية الأفراد والمجتمعات.

خلاصة القول: إن هناك ذاكرة تاريخية في العقل البحريني مرتبطة بالتاريخ والثقافة ومستشرفة للمستقبل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، من خلال الاستثمار في الرأس المال البشري وبناء بيئة الابتكار وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال وبناء نظام ابتكار وطني. تُلهمنا قصة جلجامش وقدرة البحرين على التكيف والتحول في اقتصاد المعرفة. ويبقى السؤال كيف يمكن للبحرين تطور نموذجاً لجزيرة الابتكار وتحاكي نموذج سنغافورة؟

* طالبة دكتوراه في برنامج الابتكار والتقنية بكلية الدراسات العليا بجامعة الخليج العربي