وأنا أتصفح كتاب نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله ورعاه، والذي صدرت الطبعة الأولى منه في ديسمبر 2018، والذي يحمل عنوان قصتي -أي قصة سموه-، ويضم بين دفتيه خمسين قصة، فقد استوقفتني القصة رقم 9، وتحمل عنوان عاصفة مثل يوم القيامة، ومحورها الأساسي يدور حول انفجار السفينة دارا عام 1961.
مما دونه من ذاكرة شاب في عمره آنذاك: «كنت أغط في نومي في غرفتي في البيت في ليلة 8-4-1961، عندما أحسست بضجة كبيرة مفاجئة اشتدت على إثرها ضربات قلبي بتسارع كبير، لأجد سريري في وسط عاصفة»، ويضيف «سمعت صوت والدي يصيح بقوة، حمدان... محمد أيديكما!»، الوصف دقيق لحظة بلحظة فسموه في بؤرة العاصفة وأهوالها، والريح تعصف وتدمر كل شيء أتت عليه، وقذفت القوارب والسفن إلى داخل بر دبي، كل ما بدا له في ذلك الوقت نهاية العالم من حوله، كانت بداية ليلة طويلة لن تنتهي، بدأ الناس بعدها بالوصول أفواجاً للقصر فزعين للشيخ راشد مستنجدين به.
ويواصل سموه: «ثم وصلت الأنباء التي جعلت والدي يتجمد في مكانه، فقد اندفع عدد من الجنود البريطانيين مجتازين الباب وهم بالكاد يستطيعون التقاط أنفاسهم... سموك دارا، سفينة دارا يا سيدي، ثمة حريق في دارا، عندها بدا وكأن العالم قد توقف عن الدوران... وعند هبوب العاصفة حدث انفجار قوي في أسفلها، تبعه حريق ضخم، وكان على متنها وقت وقوع حادث الغرق أكثر من 800 راكب، وقال الجنود إن الكثيرين قتلوا جراء ما حدث، لكن المفجع أن الموت لم يتوقف بعد... جمعنا أبناء عمي وعدداً كبيراً من سكان دبي في بيتنا، أرسل والدي جميع أفراد الأسرة بلا استثناء مع قوارب النجاة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه». ويسترسل سموه: «تعلمت بعدها أن نكون مستعدين دائماً لأي طارئ...إلا أنها أظهرت أنبل ما في أهل دبي...، حقاً إن الأزمات تظهر معادن الرجال»، ولمن أراد المزيد فليرجع إلى ذلك الكتاب السفر.
كل ذلك، شحذ ذاكرتي حيث إني من الذين سمعوا وقرؤوا عن نكبة دارا في حينها، وحاولت جمع ما في الذاكرة.
إلا أن غبار الزمن طمس الشيء الكثير وغير المرتب، فاستعنت بابنتي الأستاذة نعيمة، والصديق الوفي محمد عجلان، وطلبت إليهما مساعدتي فيما أرمي إليه عن تلك الكارثة، فقام كل منهما بما يجب عن طريق الغوغل وغيره من مصادر المعلومات، والرجوع إلى ما أعده الأديب المترجم مهدي عبدالله نقلاً عن نشرة النجمة الأسبوعية التي تصدرها شركة بابكو بتاريخ 12-4-1961 والمنشور في أخبار الخليج بتاريخ 25-8-2015، وهذه أمانة أدبية يجب أن ألتزم بها إذا أردت المصداقية، كما ورد في النجمة المذكورة أن أربعة من موظفي بابكو كانوا على متن السفينة داراMV، هذا ثانياً.
وفنانو الإمارات العربية المتحدة استوحوا من تلك الكارثة مسلسلاً بعنوان «فات الفوت»، ثالثاً، ورابعاً تناولت جريدة البيان ذكر تلك الفاجعة، وذكر من بعد التحقيق، بالإضافة إلى العاصفة المدمرة، إن انفجاراً مدوياً حدث في مطبخ السفينة طال غرفة المحرك، مما أدى إلى فجوة كبيرة في أسفل السفينة، قيل سببه انفجار لغم من نوع الألغام التي تزرع للدبابات، والحقيقة، أن أربعة أسباب أدت إلى فقدان الكثير من المسافرين، وطاقم السفينة من ضباط وبحارة، الأول الطوفان، والثاني الحريق، والثالث الانفجار المهول، والرابع الليل المعتم.
وأنا أروي للقراء الكرام ما حدثنا به التاجر المعروف صالح المعلا، وهو من سكان فريق الشيوخ بالمنامة «فريق بوصرة»، ومنزله يطل على شارع الشيخ حمد، وهو من الناجين الذين أنقذتهم السفن البريطانية وأهل الإمارات بسفنهم الكبيرة والصغيرة، ووصلوا إلى البحرين سالمين وهرعنا نحن صوب منزله لتهنئته بالسلامة، قال والرعب بائن على وجهه: «يوم وصلنا بالقرب من دبي، هبت ريح شديدة، وهاج الموج، وأصابنا الخوف والهلع، ولم يستطع القبطان الاقتراب من الميناء المعتاد الرسو فيه، تحاشياً بالسفينة لئلا «تلحم» أي ألا يحملها الموج إلى مياه ضحلة، وسمعنا انفجاراً مصدره جوف السفينة، ثم شبت النار، وأصبح سطح السفينة حاراً لا نستطيع الوقوف على أرجلنا، فتدافعنا إلى البحر رجالاً ونساءً وأطفالاً، وسفن الإنقاذ لم تستوعب ذلك العدد الكبير الذي على ظهر السفينة، والتدافع فيما بيننا، فكنا نرى الأطفال والنساء خاصة، والرجال الكبار يغرقون أمام أعيننا وهي غرقى بمزيج من الدموع وموج البحر!، وعن نفسه مع أنه قوي البنية ويجيد السباحة، إلا أنه عثر على حبلٍ متدلٍ من السفينة قبل غرقها، يقول تشبثت بالحبل وقدرت أن أمكن من استطعت منهم الإمساك بالحبل حتى تم إنقاذنا، رحم الله تعالى من مات من الركاب والبحارة أثناء الحدث، ومن عاش ووصل إلى بلاده حتى وافاه الأجل المحتوم «لكل أجلٍ كتاب»، تغمدهم الله تعالى بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته، وأن يجمعنا معهم إذا ما صرنا إلى ما صاروا إليه في الفردوس الأعلى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والمطلوب الآن إجراء مسح عن الأحياء الباقين -إذا يوجد حي يرزق منهم- ومعرفة جنسياتهم وأوطانهم، وإجراء مقابلات معهم فلدى كل منهم قصة يرويها، كما حدث للناجين في السفينة تايتنك المشهورة.
* مؤسس نادي اللؤلؤ، وعضو بلدي سابق، وناشط اجتماعي
مما دونه من ذاكرة شاب في عمره آنذاك: «كنت أغط في نومي في غرفتي في البيت في ليلة 8-4-1961، عندما أحسست بضجة كبيرة مفاجئة اشتدت على إثرها ضربات قلبي بتسارع كبير، لأجد سريري في وسط عاصفة»، ويضيف «سمعت صوت والدي يصيح بقوة، حمدان... محمد أيديكما!»، الوصف دقيق لحظة بلحظة فسموه في بؤرة العاصفة وأهوالها، والريح تعصف وتدمر كل شيء أتت عليه، وقذفت القوارب والسفن إلى داخل بر دبي، كل ما بدا له في ذلك الوقت نهاية العالم من حوله، كانت بداية ليلة طويلة لن تنتهي، بدأ الناس بعدها بالوصول أفواجاً للقصر فزعين للشيخ راشد مستنجدين به.
ويواصل سموه: «ثم وصلت الأنباء التي جعلت والدي يتجمد في مكانه، فقد اندفع عدد من الجنود البريطانيين مجتازين الباب وهم بالكاد يستطيعون التقاط أنفاسهم... سموك دارا، سفينة دارا يا سيدي، ثمة حريق في دارا، عندها بدا وكأن العالم قد توقف عن الدوران... وعند هبوب العاصفة حدث انفجار قوي في أسفلها، تبعه حريق ضخم، وكان على متنها وقت وقوع حادث الغرق أكثر من 800 راكب، وقال الجنود إن الكثيرين قتلوا جراء ما حدث، لكن المفجع أن الموت لم يتوقف بعد... جمعنا أبناء عمي وعدداً كبيراً من سكان دبي في بيتنا، أرسل والدي جميع أفراد الأسرة بلا استثناء مع قوارب النجاة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه». ويسترسل سموه: «تعلمت بعدها أن نكون مستعدين دائماً لأي طارئ...إلا أنها أظهرت أنبل ما في أهل دبي...، حقاً إن الأزمات تظهر معادن الرجال»، ولمن أراد المزيد فليرجع إلى ذلك الكتاب السفر.
كل ذلك، شحذ ذاكرتي حيث إني من الذين سمعوا وقرؤوا عن نكبة دارا في حينها، وحاولت جمع ما في الذاكرة.
إلا أن غبار الزمن طمس الشيء الكثير وغير المرتب، فاستعنت بابنتي الأستاذة نعيمة، والصديق الوفي محمد عجلان، وطلبت إليهما مساعدتي فيما أرمي إليه عن تلك الكارثة، فقام كل منهما بما يجب عن طريق الغوغل وغيره من مصادر المعلومات، والرجوع إلى ما أعده الأديب المترجم مهدي عبدالله نقلاً عن نشرة النجمة الأسبوعية التي تصدرها شركة بابكو بتاريخ 12-4-1961 والمنشور في أخبار الخليج بتاريخ 25-8-2015، وهذه أمانة أدبية يجب أن ألتزم بها إذا أردت المصداقية، كما ورد في النجمة المذكورة أن أربعة من موظفي بابكو كانوا على متن السفينة داراMV، هذا ثانياً.
وفنانو الإمارات العربية المتحدة استوحوا من تلك الكارثة مسلسلاً بعنوان «فات الفوت»، ثالثاً، ورابعاً تناولت جريدة البيان ذكر تلك الفاجعة، وذكر من بعد التحقيق، بالإضافة إلى العاصفة المدمرة، إن انفجاراً مدوياً حدث في مطبخ السفينة طال غرفة المحرك، مما أدى إلى فجوة كبيرة في أسفل السفينة، قيل سببه انفجار لغم من نوع الألغام التي تزرع للدبابات، والحقيقة، أن أربعة أسباب أدت إلى فقدان الكثير من المسافرين، وطاقم السفينة من ضباط وبحارة، الأول الطوفان، والثاني الحريق، والثالث الانفجار المهول، والرابع الليل المعتم.
وأنا أروي للقراء الكرام ما حدثنا به التاجر المعروف صالح المعلا، وهو من سكان فريق الشيوخ بالمنامة «فريق بوصرة»، ومنزله يطل على شارع الشيخ حمد، وهو من الناجين الذين أنقذتهم السفن البريطانية وأهل الإمارات بسفنهم الكبيرة والصغيرة، ووصلوا إلى البحرين سالمين وهرعنا نحن صوب منزله لتهنئته بالسلامة، قال والرعب بائن على وجهه: «يوم وصلنا بالقرب من دبي، هبت ريح شديدة، وهاج الموج، وأصابنا الخوف والهلع، ولم يستطع القبطان الاقتراب من الميناء المعتاد الرسو فيه، تحاشياً بالسفينة لئلا «تلحم» أي ألا يحملها الموج إلى مياه ضحلة، وسمعنا انفجاراً مصدره جوف السفينة، ثم شبت النار، وأصبح سطح السفينة حاراً لا نستطيع الوقوف على أرجلنا، فتدافعنا إلى البحر رجالاً ونساءً وأطفالاً، وسفن الإنقاذ لم تستوعب ذلك العدد الكبير الذي على ظهر السفينة، والتدافع فيما بيننا، فكنا نرى الأطفال والنساء خاصة، والرجال الكبار يغرقون أمام أعيننا وهي غرقى بمزيج من الدموع وموج البحر!، وعن نفسه مع أنه قوي البنية ويجيد السباحة، إلا أنه عثر على حبلٍ متدلٍ من السفينة قبل غرقها، يقول تشبثت بالحبل وقدرت أن أمكن من استطعت منهم الإمساك بالحبل حتى تم إنقاذنا، رحم الله تعالى من مات من الركاب والبحارة أثناء الحدث، ومن عاش ووصل إلى بلاده حتى وافاه الأجل المحتوم «لكل أجلٍ كتاب»، تغمدهم الله تعالى بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته، وأن يجمعنا معهم إذا ما صرنا إلى ما صاروا إليه في الفردوس الأعلى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والمطلوب الآن إجراء مسح عن الأحياء الباقين -إذا يوجد حي يرزق منهم- ومعرفة جنسياتهم وأوطانهم، وإجراء مقابلات معهم فلدى كل منهم قصة يرويها، كما حدث للناجين في السفينة تايتنك المشهورة.
* مؤسس نادي اللؤلؤ، وعضو بلدي سابق، وناشط اجتماعي