سألت يوماً طلّابي في الجامعة عن معنى جبر ولماذا سمّيت مادّة الجبر في الرياضيات بهذا الإسم، وللعلم فهذه المادّة بالذات تُوسم بـ Algebra وهذه التسمية مأخوذة من اللّغة العربية مع «ال» التعريف، في كلّ لغات العالم. فكان ردّ أغلب الطلبة أنّ الجبر من الإجبار، بمعنى القهر والإرغام والإلزام والإكراه، وهذا المعنى الذي يتبادر للذهن للوهلة الأولى، ليس هو المعنى المقصود من تسمية مادّة الجبر بهذا الاسم، بل بالعكس، هذه المادّة كسائر اختصاصات الرياضيات تحرّر العقل والتفكير ولا تقهره أو تجبره.
وفي الحقيقة كلمة جبر تأتي في اللّغة العربية بمعان أخرى، فجبر العظم المكسور هو إصلاحه، وتجبيره بالجبيرة، وجبر الفقير، هو سدّ حاجته، وجبر الخواطر، هو إصلاح المشاعر المكسورة، ويعني تثبيت الآخر ورفع همّته وتهوين مصيبته ومراعاة مشاعره والأخذ بيده حتى يقف على قدميه.
جبر الخواطر
جبر الخواطر خلق عظيم يدلّ على سموّ نفس وعظمة قلب وسلامة صدر، تجبر به قلوب كسرت ونفوس أرهقت بالحزن والأسى وأحباب فقدت. يُروى عن الإمام سفيان الثوري أنّه قال «ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربّه مثل جبر خاطر أخيه المسلم». فإماطة الأذى عن مشاعر وقلوب الناس لا يقلّ أبداً درجة عن إماطة الأذى عن طريقهم. ومن أسماء الله سبحانه وتعالى الجبّار فهو يجبر الفقر بالغنى والمرض بالصحّة والفشل بالنجاح والخوف بالأمن، وفي هذا المعنى أنشد ابن قيم الجوزية في نونيته:
وكذلك الجبار من أوصافه
والجبر في أوصافه نوعان
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا
ذا كسرة فالجبر منه دان
والثاني جبر القهر بالعز الذي
لا ينبغي لسواه من إنسان
وإذا علم هذا، فالجبر في الرياضيات هو بنفس المعنى السابق وهو جبر المعادلات المكسورة كما سنبيّنه الآن. وأخذ اسم الجبر في الرياضيات من اسم كتاب الجبر والمقابلة لمحمّد بن موسى الخوارزمي.
الخوارزمي وكتابه الجبر والمقابلة
هو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي عالم رياضيات وفلك مسلم عاش في حدود الفترة بين 781م إلى 847م. يعتبر من أوائل علماء الرياضيات المسلمين. كان بمثابة وزير البحث العلمي عند الخليفة العباسي المأمون حيث ولّاه الخليفة على بيت الحكمة ببغداد وقد ترك عديد من المؤلفات أهمّها كتاب «الجبر والمقابلة» الذي تُرجم إلى اللاتينية في سنة 1135م ومنه أخذت كلمة الجبر إلى اللاتينية ثمّ إلى كلّ لغات العالم.
الخوارزمي وجبر المعادلات
لقد تمكّن الخوارزمي من حلّ المعادلات من الدرجة الثانية بطريقة بسيطة وجميلة والتي تُسمّى في أيامنا بعملية إكمال المربّع وللأسف لا تذكر الكتب المدرسية أنّ هذه هي طريقة الخوارزمي.
أغلب المعاجم والقواميس تُعرّف علم الجبر على أنّه «فرعٌ من فروع الرياضيات يقوم على إِحلال الرموز محَلَّ الأَعداد المجهولة أو المعدومة»، وهذا في نظري غير صحيح لأنّ من جهة، كتاب الخوارزمي وهو يُعتبر بالإجماع أوّل كتاب في الجبر لا يحوي رمزاً واحداً، وكذا من جهة أخرى فمن المتعارف عليه أنّ المعنى اللّغوي والمعنى الاصطلاحي لأيّ تسمية ينبغي أن يشتركا في أصل المعنى، ولكن تعريفهم هذا لا يشترك البتّة مع أيّ من التعاريف اللغوية لكلمة الجبر العربية!
والتعريف الصحيح للجبر في الرياضيات من وجهة نظري هو، كما أشرنا آنفاً، إجراء عمليات رياضية من جمع وطرح وقسمة وضرب وتربيع وما شابهها على معادلة رياضية بُغية تبسيطها ومن ثَمّ حلّها.
نشير هنا في عجالة إلى أنّ طريقة الخوارزمي في جبر المعادلات التربيعية بإكمال المربّع كانت وراء حلّ المعادلات من الدرجات العليا باستخدام إكمال المكعّب وغيره، ومن شاء التوسّع فيمكنه مراجعة مقالنا المتوفّر على النت في شرح كيفية جبر وحلّ المعادلات من الدرجة الثالثة والرابعة على طريقة الخوارزمي.
رحلة المجهول من شيء إلى كي ثمّ إلى x
أنبّه القارئ هنا إلى أنّني قرّبت المفاهيم وكتبتها بلغة العصر وإلّا فإنّ الخوارزمي درس حالات كثيرة كونه لم يكن يعرف في زمانه الأعداد السالبة أو المركّبة. أضف إلى ذلك أنّه في زمانه لم يكن يَستخدم الرّموز الرياضية في المعادلات ولكنّه كان يستخدم النصّ الكلامي. فالمعادلة كتبها الخوارزمي هكذا «مال وعشرة جذور مساوٍ لتسع وثلاثين». فبالنسبة له «مال تعني تربيع وجذر هو المجهول».
أذكر هنا لطيفة سمعتها من المحاضر تيري مور وهو مدير جمعية راديوس في سلسلة تيد TED المشهورة، والمحاضرة متوفرة على «اليوتيوب»، فهو يقول إن «العرب كانت ترمز للمجهول بقولهم شيء، وعندما ترجمت كتب العرب في الأندلس إلى اللغة الإسبانية، تحولت كلمة شيء إلى كي لأنّ في لغتهم لا وجود لحرف الشين وبعد ذلك عندما جاء دور الترجمة الى اللاتينية واليونانية استخدموا للتبسيط رمز x والذي يُنطق كاي ثُمّ تحوّلت الى x لأنها كتابتها أسهل وتشبهها في الشكل. ولقد ذكر المستشرق الفرنسي بول دو لاغارد Paul De Lagarde في سنة 1883 كلاماً قريباً من هذا المعنى.
* قسم الرياضيات - جامعة البحرين
{{ article.visit_count }}
وفي الحقيقة كلمة جبر تأتي في اللّغة العربية بمعان أخرى، فجبر العظم المكسور هو إصلاحه، وتجبيره بالجبيرة، وجبر الفقير، هو سدّ حاجته، وجبر الخواطر، هو إصلاح المشاعر المكسورة، ويعني تثبيت الآخر ورفع همّته وتهوين مصيبته ومراعاة مشاعره والأخذ بيده حتى يقف على قدميه.
جبر الخواطر
جبر الخواطر خلق عظيم يدلّ على سموّ نفس وعظمة قلب وسلامة صدر، تجبر به قلوب كسرت ونفوس أرهقت بالحزن والأسى وأحباب فقدت. يُروى عن الإمام سفيان الثوري أنّه قال «ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربّه مثل جبر خاطر أخيه المسلم». فإماطة الأذى عن مشاعر وقلوب الناس لا يقلّ أبداً درجة عن إماطة الأذى عن طريقهم. ومن أسماء الله سبحانه وتعالى الجبّار فهو يجبر الفقر بالغنى والمرض بالصحّة والفشل بالنجاح والخوف بالأمن، وفي هذا المعنى أنشد ابن قيم الجوزية في نونيته:
وكذلك الجبار من أوصافه
والجبر في أوصافه نوعان
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا
ذا كسرة فالجبر منه دان
والثاني جبر القهر بالعز الذي
لا ينبغي لسواه من إنسان
وإذا علم هذا، فالجبر في الرياضيات هو بنفس المعنى السابق وهو جبر المعادلات المكسورة كما سنبيّنه الآن. وأخذ اسم الجبر في الرياضيات من اسم كتاب الجبر والمقابلة لمحمّد بن موسى الخوارزمي.
الخوارزمي وكتابه الجبر والمقابلة
هو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي عالم رياضيات وفلك مسلم عاش في حدود الفترة بين 781م إلى 847م. يعتبر من أوائل علماء الرياضيات المسلمين. كان بمثابة وزير البحث العلمي عند الخليفة العباسي المأمون حيث ولّاه الخليفة على بيت الحكمة ببغداد وقد ترك عديد من المؤلفات أهمّها كتاب «الجبر والمقابلة» الذي تُرجم إلى اللاتينية في سنة 1135م ومنه أخذت كلمة الجبر إلى اللاتينية ثمّ إلى كلّ لغات العالم.
الخوارزمي وجبر المعادلات
لقد تمكّن الخوارزمي من حلّ المعادلات من الدرجة الثانية بطريقة بسيطة وجميلة والتي تُسمّى في أيامنا بعملية إكمال المربّع وللأسف لا تذكر الكتب المدرسية أنّ هذه هي طريقة الخوارزمي.
أغلب المعاجم والقواميس تُعرّف علم الجبر على أنّه «فرعٌ من فروع الرياضيات يقوم على إِحلال الرموز محَلَّ الأَعداد المجهولة أو المعدومة»، وهذا في نظري غير صحيح لأنّ من جهة، كتاب الخوارزمي وهو يُعتبر بالإجماع أوّل كتاب في الجبر لا يحوي رمزاً واحداً، وكذا من جهة أخرى فمن المتعارف عليه أنّ المعنى اللّغوي والمعنى الاصطلاحي لأيّ تسمية ينبغي أن يشتركا في أصل المعنى، ولكن تعريفهم هذا لا يشترك البتّة مع أيّ من التعاريف اللغوية لكلمة الجبر العربية!
والتعريف الصحيح للجبر في الرياضيات من وجهة نظري هو، كما أشرنا آنفاً، إجراء عمليات رياضية من جمع وطرح وقسمة وضرب وتربيع وما شابهها على معادلة رياضية بُغية تبسيطها ومن ثَمّ حلّها.
نشير هنا في عجالة إلى أنّ طريقة الخوارزمي في جبر المعادلات التربيعية بإكمال المربّع كانت وراء حلّ المعادلات من الدرجات العليا باستخدام إكمال المكعّب وغيره، ومن شاء التوسّع فيمكنه مراجعة مقالنا المتوفّر على النت في شرح كيفية جبر وحلّ المعادلات من الدرجة الثالثة والرابعة على طريقة الخوارزمي.
رحلة المجهول من شيء إلى كي ثمّ إلى x
أنبّه القارئ هنا إلى أنّني قرّبت المفاهيم وكتبتها بلغة العصر وإلّا فإنّ الخوارزمي درس حالات كثيرة كونه لم يكن يعرف في زمانه الأعداد السالبة أو المركّبة. أضف إلى ذلك أنّه في زمانه لم يكن يَستخدم الرّموز الرياضية في المعادلات ولكنّه كان يستخدم النصّ الكلامي. فالمعادلة كتبها الخوارزمي هكذا «مال وعشرة جذور مساوٍ لتسع وثلاثين». فبالنسبة له «مال تعني تربيع وجذر هو المجهول».
أذكر هنا لطيفة سمعتها من المحاضر تيري مور وهو مدير جمعية راديوس في سلسلة تيد TED المشهورة، والمحاضرة متوفرة على «اليوتيوب»، فهو يقول إن «العرب كانت ترمز للمجهول بقولهم شيء، وعندما ترجمت كتب العرب في الأندلس إلى اللغة الإسبانية، تحولت كلمة شيء إلى كي لأنّ في لغتهم لا وجود لحرف الشين وبعد ذلك عندما جاء دور الترجمة الى اللاتينية واليونانية استخدموا للتبسيط رمز x والذي يُنطق كاي ثُمّ تحوّلت الى x لأنها كتابتها أسهل وتشبهها في الشكل. ولقد ذكر المستشرق الفرنسي بول دو لاغارد Paul De Lagarde في سنة 1883 كلاماً قريباً من هذا المعنى.
* قسم الرياضيات - جامعة البحرين