كانت أولى أمنياتي للدراسة الجامعية دراسة علم الآثار. كنت مبهورة بالتماثيل والقصور والمخطوطات وقصص الإمبراطوريات والممالك. فالتاريخ سرد وروايات يتداخل فيها الواقع بالخيال، والممكن بالمحتمل، وأحياناً يتخلله أحاديث الإفك. تمنيت، وقتها، أن أتعلم التنقيب عن الآثار وتنظيفها والقدرة على قراءة نقوشها وفك لغاتها. لكنني عرفت أن الباحث عن الآثار قبل أن يصل للقطع الأثرية فإنه يقضي ساعات طويلة تحت الشمس، وتكون الحشرات والأفاعي في استقباله قبل أن يعثر على كنز أثري ثمين. فعدلت عن فكرة دراسة الآثار، وبقيت مشغوفة بقصص الأولين.
يُتهم العرب بأنهم أمة ماضوية تقدس تاريخها وتحن له وتتقوقع داخله. هذا صحيح نسبياً، وفي منعطف تاريخي معين في ذاته فقط. إلا أنني أظن أننا أمة لا تعرف تاريخها جيداً. ثمة فقط وقفات تاريخية محدودة نهتم بتعلمها وتلميعها وربما تضخيمها. وربما كانت بعض الدوافع السياسية والإيديولوجية وراء هذا الاهتمام المحدود. وربما مهندسو الواقع الحالي ومصممو المستقبليات هم الذين يؤسسون للمنطلقات القديمة التي ترسم ما بعدها. فنحن قليلاً ما نهتم بتاريخنا الذي سبق الإسلام والتاريخ الذي تبع تفكك الدولة العباسية. لا نعرف كثيراً عن حضارات أجدادنا قبل ألفي عام وما قبلها. لا ندرس لغاتهم ولا نتعمق في أنماط حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعلمية. لا نقرأ بعمق كيف نهضت حضاراتهم ثم كيف انهارت. وكذلك، لدينا ثقب معرفي يفصل إلمامنا بواقع تاريخنا من سقوط الدولة العباسية إلى تأسس الإمبراطورية العثمانية.
بالتأكيد سيكون المتخصصون في التاريخ والمهتمون به على اطلاع بجوانب الشتات التي ذكرتها. ولكن الوعي الجمعي للأمة هو الذي يعاني من التقطع في معرفة التاريخ والالتباس في فهمه. والوعي الجمعي بما يشكل من فهم للذات وللهوية وبما يحدد صورة المستقبل فإنه المعني بالضرورة باستيعاب تاريخه استيعاباً يتجاوز رص الأحداث التاريخية في تسلسل زمني إلى فهم الكينونة الاجتماعية التي ينحدر منها وتداخلاتها وتحولاتها. إذ إن أخطر قضية تم الترويج لها في وجدان العرب هي الجمود في بؤرة تاريخية معينة تمثل عصراً ذهبياً، بالتالي تحويلها إلى إشراقة لن ينهض المستقبل إلا عليها أو بمثلها.
لا يجب أن تكون رحلتنا إلى التاريخ رحيلاً بلا عودة، فالوقوع في أسر الماضي يعيق التقدم نحو المستقبل، ولكن عودتنا إلى الماضي هي عودة للاطلاع على نماذج متعددة من البشر عاشوا واقعاً ووقائع مماثلة لما عشناه نحن. وتصرفوا على نحو قد نضطر نحن لاتباعه، غير أن أخذنا الحكمة والمعرفة مما حصل سابقاً يسهل علينا فتح مسارات جديدة وتغيير أساليبنا وطرائقنا في التفكير وفي اتخاذ القرار.
{{ article.visit_count }}
يُتهم العرب بأنهم أمة ماضوية تقدس تاريخها وتحن له وتتقوقع داخله. هذا صحيح نسبياً، وفي منعطف تاريخي معين في ذاته فقط. إلا أنني أظن أننا أمة لا تعرف تاريخها جيداً. ثمة فقط وقفات تاريخية محدودة نهتم بتعلمها وتلميعها وربما تضخيمها. وربما كانت بعض الدوافع السياسية والإيديولوجية وراء هذا الاهتمام المحدود. وربما مهندسو الواقع الحالي ومصممو المستقبليات هم الذين يؤسسون للمنطلقات القديمة التي ترسم ما بعدها. فنحن قليلاً ما نهتم بتاريخنا الذي سبق الإسلام والتاريخ الذي تبع تفكك الدولة العباسية. لا نعرف كثيراً عن حضارات أجدادنا قبل ألفي عام وما قبلها. لا ندرس لغاتهم ولا نتعمق في أنماط حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعلمية. لا نقرأ بعمق كيف نهضت حضاراتهم ثم كيف انهارت. وكذلك، لدينا ثقب معرفي يفصل إلمامنا بواقع تاريخنا من سقوط الدولة العباسية إلى تأسس الإمبراطورية العثمانية.
بالتأكيد سيكون المتخصصون في التاريخ والمهتمون به على اطلاع بجوانب الشتات التي ذكرتها. ولكن الوعي الجمعي للأمة هو الذي يعاني من التقطع في معرفة التاريخ والالتباس في فهمه. والوعي الجمعي بما يشكل من فهم للذات وللهوية وبما يحدد صورة المستقبل فإنه المعني بالضرورة باستيعاب تاريخه استيعاباً يتجاوز رص الأحداث التاريخية في تسلسل زمني إلى فهم الكينونة الاجتماعية التي ينحدر منها وتداخلاتها وتحولاتها. إذ إن أخطر قضية تم الترويج لها في وجدان العرب هي الجمود في بؤرة تاريخية معينة تمثل عصراً ذهبياً، بالتالي تحويلها إلى إشراقة لن ينهض المستقبل إلا عليها أو بمثلها.
لا يجب أن تكون رحلتنا إلى التاريخ رحيلاً بلا عودة، فالوقوع في أسر الماضي يعيق التقدم نحو المستقبل، ولكن عودتنا إلى الماضي هي عودة للاطلاع على نماذج متعددة من البشر عاشوا واقعاً ووقائع مماثلة لما عشناه نحن. وتصرفوا على نحو قد نضطر نحن لاتباعه، غير أن أخذنا الحكمة والمعرفة مما حصل سابقاً يسهل علينا فتح مسارات جديدة وتغيير أساليبنا وطرائقنا في التفكير وفي اتخاذ القرار.