لم تعد تليق البيروقراطية المقيتة بزمن باتت سمته الرئيسة السرعة في كل الأمور، حتى في ثورة التقنيات والتكنولوجيا، فقد باتت الاختراعات والتطورات العلمية في هذا المجال سريعة على نحو مخيف، فهل يحتمل هذا العصر، أو مزاج أهله العاملين من الأكفاء وأصحاب الهمم العالية، أن يحتملوا بيروقراطية مؤسساتهم؟

أيلام الموظف اليوم إن ضاق ذرعاً بتلك البيروقراطية والتراتبية التي تحرق الوقت على غير داعٍ وتجعل الموضوع الواحد مهما بدا صغيراً أو تافهاً رهن ثلاثة أو أربعة آراء، ولكل منهم طريقته في التفكير ونظرته وخلفيته الثقافية ما يعني تمييع الأفكار والمشروعات والمبادرات وكذلك العمل الرئيس وتضييع فرص التطور والارتقاء في المؤسسات؟ أما آن لدواوين الخدمة المدنية في منطقتنا، إعادة النظر فيما يتعلق بالتراتبية وتطبيقاتها في المؤسسات الحكومية، وفتح آفاق أوسع للموظفين لرفع أفكارهم والتحليق بها في مؤسساتهم إلى مستويات رفيعة قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة دون إرجائها أو رفعها لصاحب القرار الفعلي؟

إن فكرة المبادرات والمشروعات الجديدة التي يتقدم بها الموظفون في مؤسساتهم إنما هي شكل من أشكال الاستشارة المجانية التي يقدمها الموظف لمؤسسته -من خلاصة خبرته في مجال عمله المباشر أو من خبراته الخارجية الأخرى- وكم هو جميل أن يحظى مسؤول ما في مؤسسة حكومية بكادر كامل من المستشارين، وليس عاملين على نحو آلي وتقليدي يُحجر على فكرهم ويوقفون بضرورة الالتزام بالتفكير في النطاق المحدود من المهمات المنوطة بهم، لأن التقدم بالأفكار خارج ذلك الإطار الضيق قد يعني الخروج من مستوى الصلاحيات أو التخصص.

* اختلاج النبض:

إننا لا ندعو إلى المركزية في اتخاذ القرار والتي تجعل مؤسسة بكاملها تحت وطأة حكم واحد -فقد تبتلى بعض المؤسسات بقائد أعلى من عقلية خاصة أو برؤية غابرة لا تستوعب بما يكفي حجم التطورات الهائلة التي يخوضها العالم أجمع، ويظن أن الحفاظ على مستعمرته كامن في إخضاع كل من فيها تحت إمرته وأن الحفاظ على مكانته كامن في إثبات موقف مغاير على الدوام متسلحاً بالرفض وكلمة «لا» لأغلب الأفكار الواردة- إننا في هذا السياق وإن ذممنا البيروقراطية فإننا لا ندفع لانهيار منظومتها بالكامل، ولكن التخفيف منها قدر الإمكان، بأن تأتي صناعة القرار في المؤسسة على مرحلتين مثلاً أو ثلاث كحد أقصى، ولكن التراتبية في العمل عندما تبدأ من أصغر موظف في هرم المؤسسة وصولاً إلى رأس الهرم ستتطلب مرور فكرة أو مسألة ما على ما يزيد عن خمسة أشخاص وهو رقم مبالغ فيه بلا أدنى شك، ثم أن ذلك محرقة للوقت أيضاً، فمرور الفكرة/المعاملة الواحدة على خمسة أشخاص يعني استغراقها عشرة أيام على الأقل بافتراض أن جميع هؤلاء الخمسة يعملون على قدم وساق دون إجازات أو خروج من المكاتب لاجتماعات خارجية أو مهمات عمل ودون إرجاء بعض المعاملات والمراسلات البريدية لوقت آخر.