كنا أتراباً، وغير بعيدين أسرياً، والعوائل البحرينية في زمن مضى، مترابطة إما بالقربى أو المصاهرة أو الرضاعة أو الجوار، ونشأنا نحن الأبناء الذين ولدنا في الأربعينات من القرن الماضي، نلعب ونحن أطفال في «حيشان» البيوت، والأمهات يلاحظن فلذات أكبادهن بحنو وافتخار، ويوجهن سلوك الأطفال أثناء لعبهم، ويرشدنهم إلى الألعاب المفيدة التي تربي مهاراتهم الحركية والسلوكية، والآباء يقومون بنفس المهمة إذا كانوا حاضرين، ولا أنسى دور الأخوات والإخوان الأكبر سناً.

وإذا بلغ الطفل الخمس سنوات، توجهوا به إلى المطوع، لتعلم ما شاء الله له من القرآن الكريم حفظاً، لا يعلم من القراءة ولا الكتابة شيئاً، وإذا بلغ ست سنوات أدخلوه المدرسة النظامية، وعبدالله فخري وأترابه، من الجيل المحظوظ، إذ بدأ التعليم النظامي عندنا في البحرين عام 1919، جده لأبيه التاجر المعروف في زمانه ومفجر العين التي في فريج الشيوخ «فريج بوصرة»، التي تروي أهل هذا الفريج والمنطقة المحيطة وسوق المنامة، وجده لأمه النوخذة وتاجر اللؤلؤ مهنا بوحمود المهنا.

في المنامة مدرستان، المدرسة الشرقية كونها تقع في الشرق، والغربية كونها تقع في غرب المنامة، حالياً تسمى مدرسة أبوبكر الصديق، ومن قبل كانت تسمى المدرسة الجعفرية، فأبناء شرق المنامة يسجلون في المدرسة الشرقية، وأبناء غرب المنامة يسجلون في المدرسة الغربية.

وبما أننا من فريق بوصرة، كانت المدرسة الغربية هي الحاضنة لنا ولكل أبناء الفرجان الواقعة في غرب المنامة.

عبدالله فخري، ظهرت مواهبه منذ الطفولة، وصقلتها الدراسة النظامية، فكان فلتةً في القراءة والكتابة، وفي درس الأشغال وتشكيل الطين -هو طين صناعي لدن خاص يجلب من الخارج- إذ كان يشكله على هيئة أي حيوان وبحرفنة، وصنع صندوقاً من الورق المقوى على هيئة راديو بكامل واجهته وبجميع الأزرار، نال إعجاب مدرس الأشغال الأستاذ بوغزالة، وهو مدرس فلسطيني.

وبمعيته رحمه الله تعالى، كنت أنا وهو قد تولعنا بالنجارة، واشترينا أدواتها، وشرعنا في صناعة بعض الأعمال الخشبية في بيتنا، مثل «المشاية» التي يستعملها الطفل الصغير أثناء تعلمه المشي في أولى خطواته، لها عجلتان من الخلف، وعجلة في المقدمة، وقائم فوقه عارضة يمسكها الطفل من الطرفين، وكانت والدتي تثني على مهارة عبدالله، وبرع أيضاً في صناعة الورد من الورق، وكان هذا النوع من الورق الملون شائعاً في تلك الفترة، وشاركه في هذه الصنعة المرحوم سلمان محمد سلمان الجاسم، أما أنا فلم أفلح في هذه الصنعة واتجهت إلى صناعة الطائرات الورقية من نفس تلك الأوراق، وكنت أبيع الكثير منها، وثمنها أستعمله لمصروفي الجيبي وشراء مواد الصنعة.

ترك رحمه الله تعالى الدراسة مبكراً وانخرط في شركة نفط البحرين «بابكو» وهو صغير ودخل مدرستها، وتعلم اللغة الإنجليزية والحساب وأجادهما، وأصبح مدرساً في تلك المدرسة، وتولى عدة مناصب إدارية رفيعة، وأُبتعث في دورات خارجية من قبل بابكو، إلى أن أصبح رئيس مبيعات النفط في شركة كالتكس، وهو مسؤول عن التصدير الخارجي، وعن جميع محطات توزيع الوقود في المنامة والمحرق وغيرهما، إلى جانب مسؤولته الكبيرة عن الصفقات البترولية في كثير من دول العالم، إلى جانب دول الخليج العربي، وكان محل ثقة كبار مدراء شركة كالتكس العالمية الأمريكية.

ومن عطاءاته الاجتماعية والتطوعية، فقد انخرط في عضوية نادي اللؤلؤ منذ بداية التأسيس وأصبح عضواً إدارياً، وتولى تدريس اللغة الإنجليزية للتلاميذ الذين يحتاجون إلى تقوية في اللغة الإنجليزية، وتدريس السلم الموسيقي وقد تعلمه بنفسه، ومن تلامذته المرحوم الفنان عيسى محمد جاسم المالكي، الذي ذاع صيته بعد انتسابه إلى أسرة هواة الفن، إلى جانب تمكنه، أي عبدالله، في التسليك الكهربائي وميكانيكا السيارات، كل هذه المواهب وغيرها اكتسبها بذكائه المتوقد. كان عبدالله فخري كريماً، خلوقاً، حلو المعشر، اجتماعياً من الطراز الأول، لذلك تجد له علاقات حميمة مع كثير من رجال وأبناء البحرين إلى جميع مستوياتهم، محباً لوطنه، مخلصاً لقيادته، واقترن بكريمة عمه المرحوم عبدالرحمن فخري، وكونا معاً أسرة بفضل الله تعالى مثقفة وبدراسة عالية، له إسهامات جليلة في خدمة الوطن، اللهم ارحم عبدالله فخري رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناتك، وعظم الله أجور جميع أفراد أسرته، وأهله ورفاقه، والذين بادلوه إخلاصاً بإخلاص.