قيض للدكتور محمد جابر الأنصاري مرافقة جلالة الملك سنوات طويلة منذ كان جلالته ولياً للعهد، وكتب الأنصاري بعضاً من نفحات تلك المعايشة في العديد من المقالات باعتباره شاهداً على العصر، ولكن هناك ما دونه «الأنصاري» في دفتره كملاحظات خاصة من أقوال لجلالة الملك تمت في الجلسات التي جمعته وإياه، بعضها كان جلسات خاصة، وبعضها عامة ولم تنشر من قبل، تمكنك تلك الملاحظات أن تلج للحديقة الخلفية لفكر الرجل الأول الذي تمخض عنه رسم السياسة العامة للدولة.فكل ملاحظة دونت في حينها هي ما التقطها مفكر يقيم الكلمة ويعرف ثقلها، فترى أقوالاً تفتح لك باباً تعرف من خلاله روافد ذلك الفكر ومصباته لجلالة الملك والتي تمثلت في قرارات أثرت وانعكست علينا كمواطنين.«سلسلة أحاديث في الوعي الوطني لحمد بن عيسى آل خليفة» هي ملاحظات الدكتور الأنصاري التي دونها خلال جلساته مع جلالة الملك، تصفحتها وأنا أسترجع بعضاً مما يشابهها شهدت بعضاً منها وعايشت أريحيتها وعفويتها بعمقها الفلسفي خلال جلسات محدودة ومعدودة جمعتنا مع جلالته ككتاب وصحافيين تحدث فيها بأريحية وارتجال، تؤكد ما استنتجناه أن لكل قرار اتخذ قصة وروافد فكرية أنضجته.ففي تلك المدونات عرفنا على سبيل المثال كيف أثرت نظرت الملك المعجبة بالتنوع الجغرافي لمملكة البحرين على إعجابه بالتنوع الفكري والثقافي، وهو يراه ريفاً ومدناً وبحراً وبراً واسعاً، فيقول «بحكم نشأتي العسكرية بقيت معي هواية الطيران إلى اليوم، في الحياة المدنية، إلى جوانب الهوايات والرياضات الأخرى كرياضة الجولف وبقيت قيادة طائرات الهليكوبتر الأقرب إلى النفس.لدى قيادة الهليكوبتر يطير المرء عالياً بعض الشيء ولكن يبقى على مقربة من الطبيعة والناس بين المدينة والريف والبر المنفتح، غالباً ما كنت أحلق في أجواء المنطقة الجنوبية في جزيرة البحرين حيث أرى التقارب بين اليابسة والبحر وهكذا هي البحرين من كل الزوايا ثم أجتاز رأس البر والبحر الرائق المؤدي لجزر حوار حيث جنة الحياة الفطرية التي أوجدتها إرادة الخالق سبحانه.وعندما أنظر من الجو إلى أرض البحرين أراها صغيرة المساحة والامتداد الأفقي لكني أشعر كم هي كبيرة عمودياً في العمق وهي تحمل طبقات الحضارة عصراً بعد آخر. عند هذه الظاهرة أرى أن يتوقف الباحثون في جذور المجتمع المدني البحريني فمن هذا التعايش المبدع تنامى هذا المجتمع العريق» انتهى الاقتباسعين رأت جمال التنوع الجغرافي الطبيعي للبحرين، هي ذات العين التي ترى تنوعها الثقافي جميلاً، فالجمال في الثقافة والماثور الريفي لا يقل عن مأثوره المدني، والعين التي رأت طبقات الحضارة عمقاً ذا امتداد لا متناهٍ، هي ذات العين التي عوضت بهذا العمق ضيق امتدادها الأفقي.هذه فقرة واحدة صغيرة من كتيب تصل عدد صفحاته إلى السبعين تكشف لنا عن عقلية إيجابية تخلق متسعاً من ضيق تخرج نوراً من عتمة، لو ربطتها مع فقرات تناثرت هنا وهناك وجمعتها ستعرف كيف يرى حمد بن عيسى تنوع البحرين وعمقها والإنسان الذي عاش فيها ومن أين استقى حمد بن عيسى إعجابه بالإنسان البحريني، أقوال بعثرتها المناسبات وجمعها عقل له رؤية واضحة وثقة واعتزاز وفخر لا حدود له بالبحرين كوطن وبالبحريني كمواطن وبالمجتمع المدني للبحرين، فلا يترك مناسبة إلا وأبدى إعجابه في البنية المدنية للمجتمع البحريني، إذ يرى فيها تميزاً إقليمياً يفاخر به كحاكم يحكم شعباً راقياً حضارياً مدنياً، ويرى تطوره المدني أصلاً من أصول ومن عراقة هذا الشعب التي تشكلت بمشاركة منظومة حكم كرست وشجعت وأنمت هذا البناء الإنساني الحضاري للبحرينيين، نتاج تشارك فيه الحكم والمجتمع قبولاً ورضا من الطرفين، وعديدة هي الأقوال التي أكدت على هذه المشاركة، وهناك المزيد الذي سنعود له في مقالات لاحقة.التقاط الدكتور الأنصاري -وهو من هو- لتلك «الأقوال» التي ورد ذكرها في سلسلة الأحدايث وتدوينها بالتأكيد لها دلالاته ولها أثره في نفسه، هناك حديث عن التعايش الفكري وهناك حديث عن بيعات الحكم الثلاث وهناك حديث عن حرية المواطن وحق النقد والاعتراض، وكل حديث منها يستحق التأمل والتمعن.* خلاصة القول:في رأيي الخاص رغم كل ما قيل وكل ما ذكر عن حمد بن عيسى إلا أن هناك الأكثر الذي يدهشك ولم يصلنا منه إلا القليل، شكراً لمن وثق لنا تلك اللحظات الأريحية وشاركنا بها.الكتاب من إصدار «دارة الأنصاري».