حنان الخلفان
في رحلة حياتنا، نجد أنفسنا دائماً محاطين بأشخاص مختلفي الطباع، نلتقي بهم في محطات متعددة، منهم من يبقى معنا، ومنهم من يختفي مع مرور الوقت، العلاقات الاجتماعية تُبنى على أُسس متينة أحياناً، وأحياناً أخرى على المصالح المتبادلة التي تجعلها هشّة ومؤقتة، وبينما يسعى الكثيرون للحفاظ على دوائرهم الاجتماعية، نجد أن البعض يتبنّى فلسفة مختلفة، ترتكز على المصلحة الشخصية في تحديد من يستحق البقاء، ومن يجب أن يرحل.
الحكمة العربية تقول: «الناس معادن، منهم من يصدأ، ومنهم من يلمع»، وهذا القول يعبّر بوضوح عن طبيعة العلاقات التي نواجهها. في مرحلة ما من حياتنا، نُدرك أن بعض العلاقات ليست سوى استنزاف للطاقة والمشاعر، بينما هناك علاقات أخرى تمنحنا الدعم والقوة. لذا، نجد أنفسنا أمام قرارات حاسمة؛ إما أن نحتفظ بأولئك الذين يساهمون في تعزيز حياتنا، أو نُقرّر التخلّي عمّن يعوق تقدّمنا.
تتجلّى القوة التي يمتلكها كلّ فرد في التحكّم في مسار حياته الاجتماعية من خلال قدرته على إعادة ترتيب أولوياته. فالأشخاص المحيطون بنا يؤثرون بشكل مباشر على قراراتنا، وطريقة تفكيرنا، وحتى نظرتنا للمستقبل. ولهذا السبب، نجد أن الكثيرين يختارون الابتعاد عن العلاقات التي لا تُضيف لهم قيمة أو فائدة ملموسة. وعلى الرغم من أن هذه القرارات قد تبدو قاسية في بعض الأحيان، إلا أنها غالباً ما تكون ضرورية للحفاظ على التوازن الداخلي والراحة النفسية.
وهناك مقولة غربية شهيرة: «الناس يدخلون حياتك لسبب، أو لفصل، أو لعمر كامل». هذه العبارة تحمل في طياتها الكثير من الحكمة، فهي تذكّرنا بأن بعض العلاقات مؤقتة بطبيعتها، وأنه لا ضرر في أن نترك بعض الأشخاص يغادرون حينما تنتهي أدوارهم في حياتنا، وهذا الأمر ليس انتقاصاً من قيمتهم، بل هو جزء من دورة الحياة الطبيعية، حيث تتغيّر العلاقات بناءً على الظروف والمصالح المشتركة.
لكن في نفس الوقت، علينا أن نتساءل: هل المصلحة الشخصية دائماً هي المعيار الأفضل لاتخاذ هذه القرارات؟ هناك قول مأثور: «الصداقات الحقيقية لا تموت، بل تمرض». قد تمرّ بعض العلاقات بفترات من الضعف، لكنها قد تستحق العناية والاهتمام لتزدهر من جديد، فليس كل علاقة تنتهي لأسباب تتعلّق بالمصلحة، بل أحياناً تكون القرارات مبنية على سوء الفهم أو عدم التواصل الجيد.
وعندما نتمكّن من التمييز بين العلاقات التي يجب أن نحافظ عليها وتلك التي ينبغي أن نتركها خلفنا، نجد أن الأمر يتطلّب قدراً من الحكمة والتجربة. قد يبدو الأمر بسيطاً للبعض، حيث يعتمدون فقط على ما يخدم مصلحتهم الشخصية. لكن في الواقع، العلاقات الإنسانية أعمق من أن تُختزل في قواعد المصلحة وحدها. فهناك بعض الأشخاص الذين يمنحوننا تجارب حياتية لا تُقدّر بثمن، وقد لا تكون فوائد هذه العلاقات ظاهرة فوراً، لكن قيمتها الحقيقية تتجلّى على المدى الطويل.
المسألة كلها اختيار. نلتقي بأشخاص يتركون أثراً في حياتنا، لكننا نادراً ما نُدرك قيمتهم إلا بعد رحيلهم. قد نعتقد أن بعض العلاقات عابرة، ولكن مع مرور الوقت نكتشف أن غياب هؤلاء الأشخاص خَلّف أثراً لا يُمحى. في كل علاقة، نقف أمام مفترق طرق: هل نتمسك بها أم نتركها؟ أحياناً، من نبتعد عنهم يحمل غيابهم أثقل مما توقعنا، ونجد أنفسنا نتحسّر على الفرص الضائعة ونتساءل كيف كانت الأمور ستختلف لو تعاملنا معهم بشكل مختلف. الخسارة لا تقتصر على الفراق، بل تمتد إلى الدروس التي تظلّ عالقة في ذاكرتنا.
وبصراحة.. يتبقى لنا أن نفهم أن الحياة ليست مجرد موازنة للمصالح، بل هي أيضاً عن القيم والمبادئ التي نؤمن بها. حين نقرّر من يبقى في حياتنا، ومن يرحل، علينا أن نفكّر جيداً فيما وراء المصلحة الشخصية. فقد تكون العلاقة مفيدة على مستوى آخر، أو قد تحمل في طيّاتها دروساً لم ندركها بعد، ومن حقّ كل شخص أن يرسم خريطة علاقاته، ولكن من الضروري أن يرسمها بحكمة وبعين على المستقبل.