على الرغم من أن روسيا تنضحُ بعمالقة الأدب أمثال غوغول وتولستوي وبوشكين وتشيخوف الذين زاحموا المكتبات العالمية بمؤلفاتهم، فإنه لم يحظَ أي كاتبٍ منهم بالتمجيد الذي حظي به أليكسي ماكسيموفيتش بيشكوف (ماكسيم غوركي)، فهو الوحيد الذي سُميّت الشوارع والمسارح والمعاهد باسمه. فلم كان يستحق كل هذا المجد دون البقية؟استطاع غوركي أن يكون لسان الشعب الروسي الغارق في فقره وجوعه وصراعه مع الحياة بعد ثورته ضد حكم القيصر آنذاك؛ فقد كان شخصية أدبية لها ثقلها السياسي أيضاً، كما كان ناشطاً مع الحركة الاشتراكية الديموقراطية الماركسية.غوركي جسّد الواقع دون تزييف، فهو مثلهم أيضاً عاش واقعاً مريراً، وكانت طفولته بائسة، وخصوصاً بعد وفاة والده وهروب أمه، وانتقاله للعيش مع جدته. وهناك تعرّض للضرب لأول مرة في حياته على يد الجد، كان ضرباً مبرحاً أفقده الوعي وألزمه الفراش عدة أسابيع. يقول غوركي: "منذ ذلك اليوم ظهر عندي انتباه قلق تجاه المخلوقات البشرية، فأصبحت حساساً بصورة غير مألوفة حيال الامتهانات والآلام النفسية التي أعانيها أنا أو يعانيها سواي من البشر". ولا عجب أن يختار اسم (غوركي) كاسم أدبي له والذي يعني (المر) بالروسية.تنقل غوركي في المهن الوضيعة من أجل أن يعيش وهو لا يزال طفلاً، ولحسن الحظ أنه عمل مساعداً لطباخ محب للقراءة ويملك صندوقاً مليئاً بالكتب، سمح له بقراءتها، وكانت هذه نقطة تحول أخرى في حياته. يقول: "أثارت الكتب في نفسي ثقة لا تتزعزع بأني لم أعد وحيداً في هذا العالم". أما عن البذرة الأدبية الأولى، فقد غرستها فيه جدته من خلال سرد القصص عليه بشكل يومي حتى تشرب عقله بها، وسرعان ما آتت هذه البذرة الصغيرة أُكلها عندما بدأ في الكتابة، ونشر قصته الأولى التي لاقت رواجاً من القراء، وتوالت مؤلفاته حتى ذاع صيته فأصبح رمزاً للكادحين من الشعب، وصديقاً للقادة والرؤساء داخل روسيا وخارجها بعد أن كان معدماً مشرداً في الشوارع يحاول إنهاء حياته.كان غوركي بذرة شقت طريقها وسط أرض قاحلة بفضل جدته، ثم أكمل مسيرته نحو القمة لأنها آمنت به، فهو الآن من أعظم الأدباء العالميين، ويعد أب الأدب الثوري ومؤسس الواقعية الاشتراكية ولا يزال رمزاً للملايين من محبيه.إن الأطفال بذور موجودة لدى كل أسرة.. إنما لن تنمو وتكبر إلا بالسقاية والحب.. مثل غوركي.