إحياء حلقات العلم وتدارس الدين بابٌ من أبواب تزكية العقل والنفس، ونهجٌ حثَّنا الإسلام عليه ليس من باب ثوابها فحسب، بل من باب إعمال الفكر. فالحوار والمناقشة أداةٌ من أدوات تطوير العقل وتعزيز الفهم والتفكير، وركيزةٌ تربويةٌ ومنهجيةٌ وظَّفها النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة التي استهدفت شباب مكة، فكانت أداةً لإرساء العقيدة والتوحيد وقيم الدين، ونمطاً تربوياً لتنشئة جيلٍ فريدٍ في الخلق والصدق والعلم والدين، انبثق منه قادةٌ حكموا العالم، وأفشوا السلام بقوةٍ في ضعفٍ، وشدةٍ في لين.
هذه هي أصول التربية المحمدية التي انطلقت من أروقة تلك المجالس. فمنذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وظَّف الإسلام بيئات التعلم الجاذبة لتحقيق هدف التعلم، وبلور مفهوم «التكوين»، الذي يعني توظيف عقول المتعلمين توظيفاً مثالياً، وبناء شخصيتهم، وتشكيل هويتهم، وتوجيه الأيديولوجيا إراديًا نحو قيم وتعاليم الدين.
نعم، بدأ الإسلام بترسيخ التوحيد كعقيدة، ثم غرس بعدها الاتجاهات الإيمانية ووجه النشء للعبادة والتوكل على الله، مستخدماً مجالس العلم وجلسات الحوار وتدارس علوم الدين، فنتج عن تلك الممارسات جيل صادق ونموذج في الصلاح والجمع بين علوم الدين والدنيا.
لذا، تلعب حلقات العلم دوراً أساسياً في نشر القيم التربوية والدينية داخل المجتمعات متى التزمت بنمذجة الهوية المسلمة المعتدلة، كما أن للمجالس أثراً في بناء الشخصية المسلمة المتوازنة التي تقدر العلم وتحترم العلماء وتدعو إلى البحث والتفكير، وتمكن الشباب من نقل المعارف من جيل لجيل. فحلقات العلم هي حاضنة السلوك القويم المعتدل، ولا ينبغي أن تكون مجرد وسيلة لنقل المعارف نقلاً أصم، بل يجب أن تكون بيئة حوار وتشارك تصقل قدرات وعلاقات الشباب الاجتماعية، وتعد الفرد ليحيى حياة متزنة داخل المجتمع، فهي تدعم البناء المجتمعي المتماسك ليصبح أفراد المجتمع جزءاً أصيلاً منه، يحمل همومه وطموحاته بوعي وثقافة المسلم المثقف المنفتح على كافة الثقافات والعلوم.