تلفزيون الشرق
في ظل التوتر الأخير في العلاقات بين مالي وفرنسا، يبدو أنَّ الدولة الإفريقية باتت تعول على روسيا لتكون بديلاً عن حلفائها الغربيين التقليديين، ومصدراً للدعم العسكري والاقتصادي.
ليس خفياً أن روسيا عملت خلال الأعوام القليلة الماضية على تعزيز علاقاتها مع عدد من الدول الإفريقية، خصوصاً التي تعاني صراعاتٍ داخلية، وتعيش خيبة أمل من القوى الأوروبية، وهو ما يبدو أنَّ مالي تجسده في واقعها السياسي المضطرب خلال العقد الأخير.
واعتمدت العلاقات المالية الروسية الناشئة على عدد من الأسس، أبرزها التزويد بالأسلحة، ونشر المدربين العسكريين، والمقاتلين المتعاقدين، إضافة إلى الدعم الاقتصادي، والاستثمارات في قطاعات مثل المعادن وغيرها.
خيارات بديلة
جاء تدهور العلاقات بين المجلس العسكري الحاكم في مالي، والقوة الاستعمارية السابقة فرنسا، ليمثل نقطة تحول في السياسة الخارجية المالية، مع توجه باماكو صوب موسكو بحثاً عن خيارات أمنية بديلة تمكنها من تأمين نظامها السياسي، ومحاربة انتشار الحركات المسلحة.
وينشط في البلاد منذ، ديسمبر الماضي، عدد من مقاتلي مجموعة "فاجنر" الروسية التي يعتبرها الغرب ذراعاً عسكرية للكرملين، وسط تقارير عن صفقة بين باماكو والمجموعة قدَّرت الخارجية الأميركية قيمتها بـ10 ملايين دولار تدفعها الحكومة المالية شهرياً للمجموعة الروسية مقابل خدماتها الأمنية.
ومثَّل إعلان فرنسا في، فبراير الماضي، الانسحاب العسكري الكامل من مالي دفعة قوية لهذا التعاون الناشئ بين موسكو وباماكو، إذ أعلنت الحكومة المالية في، إبريل الماضي، تسلُّمها مروحيتين وجهاز رادار ومعدات عسكرية أخرى من روسيا، لتنضم إلى 4 مروحيات أخرى وأسلحة سبق أن وفرتها موسكو.
وعقب أقل من أسبوع على إعلان مالي الانسحاب من مجموعة دول الساحل الخمس التي تمثل تحالفاً إقليمياً لمحاربة الجماعات المسلحة برعاية فرنسا وحلفائها الغربيين، زار وزير الخارجية المالي عبدالله ديوب موسكو حيث التقى نظيره الروسي سيرجي لافروف.
وأكد لافروف في مؤتمر صحافي مشترك مع ديوب استعداد بلاده لتوفير دعم لباماكو "لزيادة القدرات القتالية لدى القوات المسلحة المالية"، خصوصاً في تدريب العسكريين وعناصر الشرطة، مندداً بما وصفه بـ"الذهنية الاستعمارية" لفرنسا وأوروبا في مالي.
ملء الفراغ الأمني
الخبير في الشؤون الإفريقية المراسل السابق لصحيفة "لوموند" الفرنسية الصديق آبا، قال لـ"الشرق" إن الدعم الروسي لمالي تعزز بعد القرار الفرنسي بسحب قواتها من مالي، لافتاً إلى أن هذا الدعم مثل "تغيراً كبيراً جداً" على مستوى السياسات.
وتوقع آبا أن تبني مالي "علاقة قوية مع روسيا لمحاربة الإرهاب في مالي وفي منطقة الساحل"، مشيراً إلى أن هذه العلاقة "تنسجم مع ما يشعر به الماليون من خيبة أمل، إذ يرون أنَّ الدعم الفرنسي لم يعطِ أفضلية في القتال ضد الإرهاب".
واعتبر أنَّ الدعم الروسي "أفضل وأكثر فاعلية من الدعم الفرنسي، لأنَّ روسيا قدمت لمالي الأسلحة مع خبراء تقنيين لمساعدتها في استخدام هذه الأسلحة، وهو ما منح باماكو المرونة في القتال ضد الإرهاب"، على حد تعبيره.
دعم سياسي
من جهته، أوضح الخبير في الشؤون الإفريقية عبيد إميجن أنَّ روسيا تعمل على نقل تجربتها في إفريقيا الوسطى إلى مالي.
وقال لـ"الشرق" إنَّ موسكو "تظهر قدرة متزايدة على الدفاع عن الدول التي تصبح شريكة لها في المجالات الأمنية والسياسية".
وأشار إميجن إلى أنَّ روسيا كثفت معوناتها الأمنية لمالي من خلال المقاتلات والعتاد العسكري، بالإضافة إلى تدريب الجنود، ونشر العسكريين الروس ووحدات "فاجنر"، معتبراً أن هذه المعونة بحد ذاتها "تمثل للماليين مكسباً مهماً من شأنه أن يسهم في الحد من التحديات الأمنية التي تواجهها البلاد في الوقت الراهن".
وأضاف: "كما تلعب روسيا دوراً في الدفاع عن مالي على مستوى المنتديات الدولية، ولا سيما مجلس الأمن مستخدمة مقعدها الدائم لحماية حكومة باماكو".
والخميس، قالت نائبة المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة آنا إيفستينييفا إن بلادها ملتزمة بتعزيز قدرة القوات المسلحة في المنطقة، مشيرة إلى أن جنوداً من مالي يكملون حالياً دورات في جامعات وزارة الدفاع الروسية، فيما يتم تدريب أفراد من الشرطة المالية في المرافق التعليمية التابعة لوزارة الشؤون الداخلية الروسية.
وإلى جانب التدريب، تعد روسيا المزود الأكبر لمالي بالسلاح مع صادرات تجاوزت قيمتها 35 مليون دولار، وفقاً لإحصائيات غطت الفترة ما بين 2010-2020.
تحديات جيوسياسية
لكن على الرغم من هذا الدعم العسكري والالتزام السياسي تجاه حكومة باماكو، إلا أنَّ مراقبين يشككون في مدى قدرة موسكو على ملء الفراغ الأمني في مالي، لا سيما في ظل التحديات الجيوسياسية العديدة التي تواجهها روسيا نفسها.
وقال الأستاذ المساعد في معهد العلاقات الدولية والتاريخ العالمي بجامعة نوباتشيفسكي، مدير مركز خبراء رياليست الروسي الدكتور عمرو الديب لـ"الشرق": "لا يمكننا التنبؤ بقدرة روسيا على ملء الفراغ الأمني في مالي، خاصة في ظل مستجدات الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا، وكذلك منطقة بحر البلطيق والقطب الشمالي، إضافة إلى التحديات الخطيرة في آسيا الوسطى، والحديث هنا عن أفغانستان".
واعتبر الديب أنَّ "قدرة روسيا على تقديم أمور ملموسة يمكنها من خلالها ملء هذا الفراغ محدودة للغاية، ما لم يكن هناك تعاون مع دول إقليمية أخرى".
واعتبر الديب أنه "لا يمكن لدولة واحدة أن تدعي قدرتها على ملء الفراغ الأمني في هذه المنطقة التي تعاني بسبب العديد من العوامل، وأهمها الإرهاب، فعلى سبيل المثال لم تستطع مجموعة دول الساحل النجاح في وجه التحديات الأمنية في المنطقة على الرغم من الحضور الأوروبي الكبير فيها".
واعتبر المدير العام للمعهد الثقافي الإفريقي السفير الدكتور محمد الصوفي أنَّه على الرغم من أنَّ روسيا قوة عظمى، ولديها القدرة على ملء الفراغ الأمني بطريقة أو بأخرى إذا أرادت ذلك، إلا أنَّ التعاون الأمني الروسي الرسمي مع مالي لا يزال محدوداً.
وأضاف لـ"الشرق" أنَّ الحديث عن هذا التعاون ينحصر في التعاقد مع مجموعة "فاجنر"، وسط تضارب في المعلومات عن طبيعة التعاقد، لافتاً إلى أنَّ مسألة ملء الفراغ الأمني "تتطلب استقراراً ووقتاً أوسع، وهو ما تفتقر إليه الحكومة المالية".
تشكيك غربي
وتشكك القوى الغربية في قدرة مالي على أن تنجز مع روسيا والمقاتلين المحسوبين عليها ما لم تستطع إنجازه في ظل انتشار القوات الفرنسية، ووجود 15 ألف جندي من قوات حفظ السلام الأممية، إضافة إلى الدعم الاستخباراتي الغربي.
وقال المبعوث الأميركي السابق إلى منطقة الساحل الإفريقي جاي بيتر فام إن قدرة روسيا على تحقيق المزيد من الاختراقات المهمة في مالي "محدودة".
وأضاف: "لم أرَ أي دليل على أنَّ روسيا، حتى قبل الضربات العسكرية التي شنها جيشها في أوكرانيا، قادرة على نشر قواتٍ بالأعداد اللازمة لتعويض القوات الفرنسية وغيرها من القوات المغادرة"، بحسب ما نقلته مجلة "نيوزويك" الأميركية.
وإلى جانب ضخامة المهمة الأمنية التي تواجهها روسيا والمجموعات المحسوبة عليها في مالي، تتعرض هذه المجموعات أيضاً إلى اتهامات غربية بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
وبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، فقد زاد العنف ضد المدنيين سواء من حيث الأرقام أو الحدة منذ وصول "فاجنر" إلى البلاد في ديسمبر 2021.
وكشف المركز أنه خلال الربع الأول من عام 2022، تجاوز عدد القتلى المدنيين العدد الإجمالي لضحايا الصراع في عام 2021 بأكمله.
التعاون الاقتصادي
التعاون بين روسيا ومالي لا يقتصر على الجانب الأمني فقط، وإنما يمتد إلى المجال الاقتصادي أيضاً مع توجه الحكومة المالية لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع موسكو.
وعلى الرغم من أن حجم التجارة بين البلدين لا يتجاوز 73 مليون دولار سنوياً، وهو رقم متواضع قياساً إلى الشركاء التجاريين الآخرين لروسيا في القارة، إلا أنَّ البلدين أظهرا خلال الفترة الأخيرة رغبة في العمل معاً في مجالات استكشاف وتطوير الموارد المعدنية والطاقة والبنية التحتية والزراعة، إضافة إلى تعزيز الشراكة التجارية وخلق بيئة مواتية للشركات الروسية في مالي.
وفي ظل تراجع الدعم الغربي والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا على مالي، باتت روسيا وجهة محتملة لتنويع الشركاء الاقتصاديين للبلاد.
وتحدَّثت تقارير في فبراير الماضي عن قيام شركات روسية باستكشاف مواقع المعادن في منطقتي سيكاسو وكوليكورو في مالي، تمهيداً للحصول على امتيازات في التعدين.
وقال عمرو الديب إنَّ "روسيا تمتلك إمكانيات ضخمة على مستوى المواد الخام، وهنا يمكن لمسألة تقديم هذه المواد بأسعار رخيصة أن تلعب دوراً كبيراً في جعل روسيا شريكاً اقتصادياً لمالي، خصوصاً أنَّ الأخيرة لديها أيضاً موارد يمكن من خلالها استخدام نظام المقايضات التجارية التي تشتهر بها روسيا".
والجمعة، أكد وزير الخارجية الروسي أنَّ بلاده ستواصل تسليم مالي القمح والأسمدة العضوية إضافة الى المنتجات النفطية.
لكن الصوفي اعتبر أنَّ انشغال روسيا بالحرب القوية في أوكرانيا والضغوط الكبيرة التي يمارسها الغرب، "يجعلها في وضعية لا تتيح لها تقديم ما تحتاجه مالي من دعم اقتصادي، على الرغم من كون الدعم الذي تطمح إليه مالي قد لا يكون مرتفعاً جداً".
"قارب نجاة"
أمام هذه العلاقات المتنامية، ثمة أسئلة متداولة عمَّا إذا كان التوجه المالي نحو روسيا يمثّل خياراً استراتيجياً لبناء تحالف مستدام أم مجرد مناورة تكتيكية لمقاومة الضغوط الغربية والإقليمية؟
في هذا الصدد، اعتبر مجلس الشؤون الدولية الروسي، أنَّه في وجه العزلة الدولية التي تعانيها الحكومة المالية، والعقوبات المفروضة عليها من جيرانها، والمنظمات الإقليمية، تبدو روسيا بمثابة "قارب نجاة" محتمل لإنقاذ البلاد.
وأشار المركز إلى أنَّه من بين القوى الخارجية المرشحة لمساعدة مالي خلال الفترة المقبلة، تعد موسكو الأقرب للاضطلاع بهذا الدور، في ظل حضورها المتزايد في منطقة الساحل الإفريقي، ودعمها لسيادة مالي وحقها في تحديد المصير، على حد تعبير المركز الروسي.
وقال الصديق آبا: "بالنسبة لي، لا تمثل هذه العلاقات مناورة، وإنما تغيراً في التحالفات، خصوصاً إذا علمنا أنه منذ حقبة الاستقلال في ستينيات القرن الماضي كانت هناك علاقات قوية بين مالي والاتحاد السوفيتي خاصة في عهد الرئيس الأول للبلاد موديبو كيتا".
"تقارب تكتيكي"
في المقابل، اعتبر الديب أنَّ التقارب الحالي بين مالي وروسيا "يمكن اعتباره تقارباً تكتيكياً بالفعل، فالدول الإفريقية، وغيرها من الدول الصغيرة، تلعب على هذا الوتر الذي تم استخدامه كثيراً على مر التاريخ، أي التحرك تارة نحو الشرق، وتارة نحو الغرب".
وأضاف: "لكن في هذا السياق، روسيا وقيادتها أصبحت أكثر نضجاً من قيادات الاتحاد السوفيتي"، لافتاً إلى أنها "لن تساعد أحداً بالمجان، بل ستكسب في المقابل الكثير، إذا قدمت شيئاً لهذه الدول".
وأشار الصوفي إلى أنه إذا كان ما يحدث الآن بين روسيا ومالي "يراد له أن يتطور ليكون تحالفاً استراتيجياً بين الطرفين، فإنَّ الأمر يتطلب المزيد من الوقت، ولا أظن أنَّ هذا الوقت متاح للسلطات الانتقالية في مالي التي تعمل تحت ضغط شديد، وتواجه عدداً هائلاً من المشاكل والأزمات".
وأشار إل أنَّ "قرارات الحكومة المالية قد لا تكون كلها محل إجماع داخل الجيش، بدليل تكرار الحديث عن المحاولات الانقلابية، وآخرها المحاولة التي أعلن عنها هذا الأسبوع، والتي أشارت السلطات المالية إلى أن عدداً من الضباط المشاركين فيها هم من المقربين من المجلس العسكري الحاكم".
مستقبل الوجود الفرنسي
توجه مالي نحو روسيا، يلقي بظلاله على مستقبل الوجود الفرنسي في هذه الدولة، وفي منطقة الساحل الإفريقي التي لطالما كانت منطقة نفوذ خالصة لباريس.
وسبق أن اعتبر مجلس الشؤون الدولية الروسي أنَّ الحضور الروسي في مالي "أقلق موازين القوى في البلاد والاحتكار الفرنسي للنفوذ".
وبحسب معهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركي، ينظر الماليون أيضاً إلى روسيا بشكل إيجابي، بينما ينظرون إلى المبادرات الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، باعتبارها "ستاراً للاستعمار الجديد".
وقال الديب إنَّ روسيا "تنظر بشكل خاص إلى مالي بوصفها مسرحاً للصراع بينها وبين فرنسا، وهي تستخدم هذا العامل في علاقاتها مع فرنسا، وقد نجحت في ذلك بالفعل في العام الأخير"، على حد تعبيره.
وأضاف: "لكن بعد العملية العسكرية في أوكرانيا يمكننا ملاحظة تغير في استراتيجية روسيا داخل مالي، من خلال استخدام الشركات العسكرية الخاصة، وتقديم أسلحة، وهذا بلا شك رد على تزويد فرنسا أوكرانيا بالأسلحة".
بدوره، أكد الصديق آبا أنَّ العلاقات المالية الروسية "ستؤثر بقوة على النفوذ الفرنسي، ففرنسا كانت بمثابة القوة الوحيدة في المنطقة، لكن الآن هناك خيارات أخرى"، لافتاً إلى أن البلدان الأخرى في الإقليم تراقب مآلات الوضع في العلاقة بين مالي وروسيا، فإذا أثبتت هذه العلاقات أنها أفضل، فإن روسيا ستحظى بدول أخرى في تحالفاتها الإفريقية الناشئة.
في ظل التوتر الأخير في العلاقات بين مالي وفرنسا، يبدو أنَّ الدولة الإفريقية باتت تعول على روسيا لتكون بديلاً عن حلفائها الغربيين التقليديين، ومصدراً للدعم العسكري والاقتصادي.
ليس خفياً أن روسيا عملت خلال الأعوام القليلة الماضية على تعزيز علاقاتها مع عدد من الدول الإفريقية، خصوصاً التي تعاني صراعاتٍ داخلية، وتعيش خيبة أمل من القوى الأوروبية، وهو ما يبدو أنَّ مالي تجسده في واقعها السياسي المضطرب خلال العقد الأخير.
واعتمدت العلاقات المالية الروسية الناشئة على عدد من الأسس، أبرزها التزويد بالأسلحة، ونشر المدربين العسكريين، والمقاتلين المتعاقدين، إضافة إلى الدعم الاقتصادي، والاستثمارات في قطاعات مثل المعادن وغيرها.
خيارات بديلة
جاء تدهور العلاقات بين المجلس العسكري الحاكم في مالي، والقوة الاستعمارية السابقة فرنسا، ليمثل نقطة تحول في السياسة الخارجية المالية، مع توجه باماكو صوب موسكو بحثاً عن خيارات أمنية بديلة تمكنها من تأمين نظامها السياسي، ومحاربة انتشار الحركات المسلحة.
وينشط في البلاد منذ، ديسمبر الماضي، عدد من مقاتلي مجموعة "فاجنر" الروسية التي يعتبرها الغرب ذراعاً عسكرية للكرملين، وسط تقارير عن صفقة بين باماكو والمجموعة قدَّرت الخارجية الأميركية قيمتها بـ10 ملايين دولار تدفعها الحكومة المالية شهرياً للمجموعة الروسية مقابل خدماتها الأمنية.
ومثَّل إعلان فرنسا في، فبراير الماضي، الانسحاب العسكري الكامل من مالي دفعة قوية لهذا التعاون الناشئ بين موسكو وباماكو، إذ أعلنت الحكومة المالية في، إبريل الماضي، تسلُّمها مروحيتين وجهاز رادار ومعدات عسكرية أخرى من روسيا، لتنضم إلى 4 مروحيات أخرى وأسلحة سبق أن وفرتها موسكو.
وعقب أقل من أسبوع على إعلان مالي الانسحاب من مجموعة دول الساحل الخمس التي تمثل تحالفاً إقليمياً لمحاربة الجماعات المسلحة برعاية فرنسا وحلفائها الغربيين، زار وزير الخارجية المالي عبدالله ديوب موسكو حيث التقى نظيره الروسي سيرجي لافروف.
وأكد لافروف في مؤتمر صحافي مشترك مع ديوب استعداد بلاده لتوفير دعم لباماكو "لزيادة القدرات القتالية لدى القوات المسلحة المالية"، خصوصاً في تدريب العسكريين وعناصر الشرطة، مندداً بما وصفه بـ"الذهنية الاستعمارية" لفرنسا وأوروبا في مالي.
ملء الفراغ الأمني
الخبير في الشؤون الإفريقية المراسل السابق لصحيفة "لوموند" الفرنسية الصديق آبا، قال لـ"الشرق" إن الدعم الروسي لمالي تعزز بعد القرار الفرنسي بسحب قواتها من مالي، لافتاً إلى أن هذا الدعم مثل "تغيراً كبيراً جداً" على مستوى السياسات.
وتوقع آبا أن تبني مالي "علاقة قوية مع روسيا لمحاربة الإرهاب في مالي وفي منطقة الساحل"، مشيراً إلى أن هذه العلاقة "تنسجم مع ما يشعر به الماليون من خيبة أمل، إذ يرون أنَّ الدعم الفرنسي لم يعطِ أفضلية في القتال ضد الإرهاب".
واعتبر أنَّ الدعم الروسي "أفضل وأكثر فاعلية من الدعم الفرنسي، لأنَّ روسيا قدمت لمالي الأسلحة مع خبراء تقنيين لمساعدتها في استخدام هذه الأسلحة، وهو ما منح باماكو المرونة في القتال ضد الإرهاب"، على حد تعبيره.
دعم سياسي
من جهته، أوضح الخبير في الشؤون الإفريقية عبيد إميجن أنَّ روسيا تعمل على نقل تجربتها في إفريقيا الوسطى إلى مالي.
وقال لـ"الشرق" إنَّ موسكو "تظهر قدرة متزايدة على الدفاع عن الدول التي تصبح شريكة لها في المجالات الأمنية والسياسية".
وأشار إميجن إلى أنَّ روسيا كثفت معوناتها الأمنية لمالي من خلال المقاتلات والعتاد العسكري، بالإضافة إلى تدريب الجنود، ونشر العسكريين الروس ووحدات "فاجنر"، معتبراً أن هذه المعونة بحد ذاتها "تمثل للماليين مكسباً مهماً من شأنه أن يسهم في الحد من التحديات الأمنية التي تواجهها البلاد في الوقت الراهن".
وأضاف: "كما تلعب روسيا دوراً في الدفاع عن مالي على مستوى المنتديات الدولية، ولا سيما مجلس الأمن مستخدمة مقعدها الدائم لحماية حكومة باماكو".
والخميس، قالت نائبة المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة آنا إيفستينييفا إن بلادها ملتزمة بتعزيز قدرة القوات المسلحة في المنطقة، مشيرة إلى أن جنوداً من مالي يكملون حالياً دورات في جامعات وزارة الدفاع الروسية، فيما يتم تدريب أفراد من الشرطة المالية في المرافق التعليمية التابعة لوزارة الشؤون الداخلية الروسية.
وإلى جانب التدريب، تعد روسيا المزود الأكبر لمالي بالسلاح مع صادرات تجاوزت قيمتها 35 مليون دولار، وفقاً لإحصائيات غطت الفترة ما بين 2010-2020.
تحديات جيوسياسية
لكن على الرغم من هذا الدعم العسكري والالتزام السياسي تجاه حكومة باماكو، إلا أنَّ مراقبين يشككون في مدى قدرة موسكو على ملء الفراغ الأمني في مالي، لا سيما في ظل التحديات الجيوسياسية العديدة التي تواجهها روسيا نفسها.
وقال الأستاذ المساعد في معهد العلاقات الدولية والتاريخ العالمي بجامعة نوباتشيفسكي، مدير مركز خبراء رياليست الروسي الدكتور عمرو الديب لـ"الشرق": "لا يمكننا التنبؤ بقدرة روسيا على ملء الفراغ الأمني في مالي، خاصة في ظل مستجدات الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا، وكذلك منطقة بحر البلطيق والقطب الشمالي، إضافة إلى التحديات الخطيرة في آسيا الوسطى، والحديث هنا عن أفغانستان".
واعتبر الديب أنَّ "قدرة روسيا على تقديم أمور ملموسة يمكنها من خلالها ملء هذا الفراغ محدودة للغاية، ما لم يكن هناك تعاون مع دول إقليمية أخرى".
واعتبر الديب أنه "لا يمكن لدولة واحدة أن تدعي قدرتها على ملء الفراغ الأمني في هذه المنطقة التي تعاني بسبب العديد من العوامل، وأهمها الإرهاب، فعلى سبيل المثال لم تستطع مجموعة دول الساحل النجاح في وجه التحديات الأمنية في المنطقة على الرغم من الحضور الأوروبي الكبير فيها".
واعتبر المدير العام للمعهد الثقافي الإفريقي السفير الدكتور محمد الصوفي أنَّه على الرغم من أنَّ روسيا قوة عظمى، ولديها القدرة على ملء الفراغ الأمني بطريقة أو بأخرى إذا أرادت ذلك، إلا أنَّ التعاون الأمني الروسي الرسمي مع مالي لا يزال محدوداً.
وأضاف لـ"الشرق" أنَّ الحديث عن هذا التعاون ينحصر في التعاقد مع مجموعة "فاجنر"، وسط تضارب في المعلومات عن طبيعة التعاقد، لافتاً إلى أنَّ مسألة ملء الفراغ الأمني "تتطلب استقراراً ووقتاً أوسع، وهو ما تفتقر إليه الحكومة المالية".
تشكيك غربي
وتشكك القوى الغربية في قدرة مالي على أن تنجز مع روسيا والمقاتلين المحسوبين عليها ما لم تستطع إنجازه في ظل انتشار القوات الفرنسية، ووجود 15 ألف جندي من قوات حفظ السلام الأممية، إضافة إلى الدعم الاستخباراتي الغربي.
وقال المبعوث الأميركي السابق إلى منطقة الساحل الإفريقي جاي بيتر فام إن قدرة روسيا على تحقيق المزيد من الاختراقات المهمة في مالي "محدودة".
وأضاف: "لم أرَ أي دليل على أنَّ روسيا، حتى قبل الضربات العسكرية التي شنها جيشها في أوكرانيا، قادرة على نشر قواتٍ بالأعداد اللازمة لتعويض القوات الفرنسية وغيرها من القوات المغادرة"، بحسب ما نقلته مجلة "نيوزويك" الأميركية.
وإلى جانب ضخامة المهمة الأمنية التي تواجهها روسيا والمجموعات المحسوبة عليها في مالي، تتعرض هذه المجموعات أيضاً إلى اتهامات غربية بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
وبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، فقد زاد العنف ضد المدنيين سواء من حيث الأرقام أو الحدة منذ وصول "فاجنر" إلى البلاد في ديسمبر 2021.
وكشف المركز أنه خلال الربع الأول من عام 2022، تجاوز عدد القتلى المدنيين العدد الإجمالي لضحايا الصراع في عام 2021 بأكمله.
التعاون الاقتصادي
التعاون بين روسيا ومالي لا يقتصر على الجانب الأمني فقط، وإنما يمتد إلى المجال الاقتصادي أيضاً مع توجه الحكومة المالية لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع موسكو.
وعلى الرغم من أن حجم التجارة بين البلدين لا يتجاوز 73 مليون دولار سنوياً، وهو رقم متواضع قياساً إلى الشركاء التجاريين الآخرين لروسيا في القارة، إلا أنَّ البلدين أظهرا خلال الفترة الأخيرة رغبة في العمل معاً في مجالات استكشاف وتطوير الموارد المعدنية والطاقة والبنية التحتية والزراعة، إضافة إلى تعزيز الشراكة التجارية وخلق بيئة مواتية للشركات الروسية في مالي.
وفي ظل تراجع الدعم الغربي والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا على مالي، باتت روسيا وجهة محتملة لتنويع الشركاء الاقتصاديين للبلاد.
وتحدَّثت تقارير في فبراير الماضي عن قيام شركات روسية باستكشاف مواقع المعادن في منطقتي سيكاسو وكوليكورو في مالي، تمهيداً للحصول على امتيازات في التعدين.
وقال عمرو الديب إنَّ "روسيا تمتلك إمكانيات ضخمة على مستوى المواد الخام، وهنا يمكن لمسألة تقديم هذه المواد بأسعار رخيصة أن تلعب دوراً كبيراً في جعل روسيا شريكاً اقتصادياً لمالي، خصوصاً أنَّ الأخيرة لديها أيضاً موارد يمكن من خلالها استخدام نظام المقايضات التجارية التي تشتهر بها روسيا".
والجمعة، أكد وزير الخارجية الروسي أنَّ بلاده ستواصل تسليم مالي القمح والأسمدة العضوية إضافة الى المنتجات النفطية.
لكن الصوفي اعتبر أنَّ انشغال روسيا بالحرب القوية في أوكرانيا والضغوط الكبيرة التي يمارسها الغرب، "يجعلها في وضعية لا تتيح لها تقديم ما تحتاجه مالي من دعم اقتصادي، على الرغم من كون الدعم الذي تطمح إليه مالي قد لا يكون مرتفعاً جداً".
"قارب نجاة"
أمام هذه العلاقات المتنامية، ثمة أسئلة متداولة عمَّا إذا كان التوجه المالي نحو روسيا يمثّل خياراً استراتيجياً لبناء تحالف مستدام أم مجرد مناورة تكتيكية لمقاومة الضغوط الغربية والإقليمية؟
في هذا الصدد، اعتبر مجلس الشؤون الدولية الروسي، أنَّه في وجه العزلة الدولية التي تعانيها الحكومة المالية، والعقوبات المفروضة عليها من جيرانها، والمنظمات الإقليمية، تبدو روسيا بمثابة "قارب نجاة" محتمل لإنقاذ البلاد.
وأشار المركز إلى أنَّه من بين القوى الخارجية المرشحة لمساعدة مالي خلال الفترة المقبلة، تعد موسكو الأقرب للاضطلاع بهذا الدور، في ظل حضورها المتزايد في منطقة الساحل الإفريقي، ودعمها لسيادة مالي وحقها في تحديد المصير، على حد تعبير المركز الروسي.
وقال الصديق آبا: "بالنسبة لي، لا تمثل هذه العلاقات مناورة، وإنما تغيراً في التحالفات، خصوصاً إذا علمنا أنه منذ حقبة الاستقلال في ستينيات القرن الماضي كانت هناك علاقات قوية بين مالي والاتحاد السوفيتي خاصة في عهد الرئيس الأول للبلاد موديبو كيتا".
"تقارب تكتيكي"
في المقابل، اعتبر الديب أنَّ التقارب الحالي بين مالي وروسيا "يمكن اعتباره تقارباً تكتيكياً بالفعل، فالدول الإفريقية، وغيرها من الدول الصغيرة، تلعب على هذا الوتر الذي تم استخدامه كثيراً على مر التاريخ، أي التحرك تارة نحو الشرق، وتارة نحو الغرب".
وأضاف: "لكن في هذا السياق، روسيا وقيادتها أصبحت أكثر نضجاً من قيادات الاتحاد السوفيتي"، لافتاً إلى أنها "لن تساعد أحداً بالمجان، بل ستكسب في المقابل الكثير، إذا قدمت شيئاً لهذه الدول".
وأشار الصوفي إلى أنه إذا كان ما يحدث الآن بين روسيا ومالي "يراد له أن يتطور ليكون تحالفاً استراتيجياً بين الطرفين، فإنَّ الأمر يتطلب المزيد من الوقت، ولا أظن أنَّ هذا الوقت متاح للسلطات الانتقالية في مالي التي تعمل تحت ضغط شديد، وتواجه عدداً هائلاً من المشاكل والأزمات".
وأشار إل أنَّ "قرارات الحكومة المالية قد لا تكون كلها محل إجماع داخل الجيش، بدليل تكرار الحديث عن المحاولات الانقلابية، وآخرها المحاولة التي أعلن عنها هذا الأسبوع، والتي أشارت السلطات المالية إلى أن عدداً من الضباط المشاركين فيها هم من المقربين من المجلس العسكري الحاكم".
مستقبل الوجود الفرنسي
توجه مالي نحو روسيا، يلقي بظلاله على مستقبل الوجود الفرنسي في هذه الدولة، وفي منطقة الساحل الإفريقي التي لطالما كانت منطقة نفوذ خالصة لباريس.
وسبق أن اعتبر مجلس الشؤون الدولية الروسي أنَّ الحضور الروسي في مالي "أقلق موازين القوى في البلاد والاحتكار الفرنسي للنفوذ".
وبحسب معهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركي، ينظر الماليون أيضاً إلى روسيا بشكل إيجابي، بينما ينظرون إلى المبادرات الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، باعتبارها "ستاراً للاستعمار الجديد".
وقال الديب إنَّ روسيا "تنظر بشكل خاص إلى مالي بوصفها مسرحاً للصراع بينها وبين فرنسا، وهي تستخدم هذا العامل في علاقاتها مع فرنسا، وقد نجحت في ذلك بالفعل في العام الأخير"، على حد تعبيره.
وأضاف: "لكن بعد العملية العسكرية في أوكرانيا يمكننا ملاحظة تغير في استراتيجية روسيا داخل مالي، من خلال استخدام الشركات العسكرية الخاصة، وتقديم أسلحة، وهذا بلا شك رد على تزويد فرنسا أوكرانيا بالأسلحة".
بدوره، أكد الصديق آبا أنَّ العلاقات المالية الروسية "ستؤثر بقوة على النفوذ الفرنسي، ففرنسا كانت بمثابة القوة الوحيدة في المنطقة، لكن الآن هناك خيارات أخرى"، لافتاً إلى أن البلدان الأخرى في الإقليم تراقب مآلات الوضع في العلاقة بين مالي وروسيا، فإذا أثبتت هذه العلاقات أنها أفضل، فإن روسيا ستحظى بدول أخرى في تحالفاتها الإفريقية الناشئة.