إلى متى تستطيع الولايات المتحدة وتركيا الحفاظ على تحالفهما؟
سؤال كبير لطالما تردد في السنوات الأخيرة، خصوصاً على وقع الأزمة السورية والمسألة الكردية، وكذلك منذ أن أحكم رجب طيب أردوغان قبضته على السلطة. ولم تكن مشكلة القس الأميركي أندرو برانسون المحتجز في تركيا سوى حلقة حديثة من سلسلة التوترات بين البلدين، الناجمة عن دعم واشنطن لـ "قوات سوريا الديمقراطية" التي تعتبرها تركيا مجموعة ارهابية، وعدم تسليم الأولى الداعية فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا والذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية صيف 2016، وكذلك سعي الاخيرة إلى شراء منظومة "إس 400" الروسية للدفاع الجوي.
وبالعودة إلى الوراء لا بد من التذكير بـ "مبدأ ترومان" الصادر عام 1947 والذي يقول "حين يهدّد العدوان، مباشراً كان أو غير مباشر، أمن الولايات المتحدة الأميركية وسلامتها، يكون لزاماً على الحكومة الأميركية أن تقوم بعمل ما لوقف هذا العدوان". وقد طُبّق هذا المبدأ على اليونان وتركيا، تمكيناً لهما من مقاومة المدّ الشيوعي وعدم السماح للاتحاد السوفياتي بالتوسع أكثر جنوباً. وتُرجم ذلك بمساعدات اقتصادية وعسكرية لليونان وخصوصاً تركيا التي أصبحت عضواً في حلف شمالي الأطلسي 1952. كما انه منذ 1954 تعززت العلاقة بين واشنطن وأنقرة مع الاتفاق على استخدام القوات الأميركية قاعدة إنجرليك الجوية التركية.
كانت الأزمة الكبرى الأولى بين الجانبين الحليفين في الحرب الباردة، الموقف الأميركي من إرسال قوات تركية إلى الشطر الشمالي من قبرص عام 1974 إبان الحرب الأهلية القبرصية التي قسمت الجزيرة المتوسطية مما استتبع فرض حظر على بيع تركيا سلاحاً أميركياً.
وتوترت العلاقات بسبب فيلم سينمائي صدر عام 1978 بعنوان "ميدنايت إكسبرس" روى القصة الحقيقية لمعاناة أميركي دين بتهريب مخدرات وفراره من سجن تركي، مما اضر كثيرا بالقطاع السياحي التركي. ولم تصطلح الامور إلا عام 1980 حين وقّع الجانبان اتفاق التعاون الاقتصادي والعسكري الذي سمح للولايات المتحدة باستخدام 26 منشأة عسكرية تركية، مقابل حصول أنقرة على معدّات عسكرية أميركية حديثة.
وبعدما صارت تركيا حليفاً للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، كان القرار المفاجئ للبرلمان التركي بعدم تقديم مساعدات لوجستية للقوات الأميركية التي دخلت العراق 2003.
كذلك شكلت الحملة التركية على "حزب العمال الكردستاني" نقطة خلاف بين الجانبين في عهد الرئيس جورج بوش الإبن، واستدعت تركيا سفيرها في واشنطن عام 2007 على إثر موقف لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي من "الإبادة الأرمينية" إبان الحكم العثماني.
تحسّنت العلاقة عام 2009 عندما زار الرئيس الأميركي باراك أوباما تركيا، وأكد أهميتها كحليف وصديق. وجاء "الربيع العربي" ثم الأزمة السورية ليظهرا مجدداً التباينات بين الجانبين، وتصاعدت التوترات عندما اتهمت أنقرة واشنطن بدعم المحاولة الإنقلابية في يوليو (تموز) 2016، واحتضانها الداعية فتح الله غولن الذي تطالب السلطات التركية باستردداه لمحاكمته، وهو ما ترفضه واشنطن بحزم.
ويبدو أن الآلية التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون في فبراير الماضي حين زار تركيا لم تفلح في إعادة الأمور إلى طبيعتها بين حليفين عضويين في "الأطلسي"، بل استمرت التباينات لا سيما في ظل وجود شخصيتين قويتين على رأس الحكم في كل من البلدين: دونالد ترمب ورجب طيب أردوغان.
وأدت الأزمة الأخيرة المتعلقة بقضية القس أندرو برونسون، المحتجز في تركيا منذ نحو سنتين بتهمة العمل مع فتح الله غولن، إلى تهديدات أميركية بفرض عقوبات على أنقرة، ومع ذلك قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إنه "يمكن إنقاذ العلاقات وتحسينها إذا نظرت الإدارة الأميركية بعين الجدية إلى مخاوف تركيا الأمنية"، مضيفاً أنه "قد يكون لدى الرئيس الأميركي نيات حسنة تجاه العلاقات مع الرئيس رجب طيب إردوغان وتركيا، وسيكون هناك رد على ذلك عندما تستند العلاقة إلى الإحترام المتبادل والمصلحة المشتركة".
مهما يكن من أمر، يمكن الجزم بأن الثقة بين الطرفين ضعيفة . وفيما تخوض الولايات المتحدة صراعاً جيواستراتيجياً مع كل من الصين وروسيا عالمياً وإيران إقليمياً، فإن تركيا تتقارب مع موسكو.
لكن، هل يمكن أن تصل الأمور إلى قطيعة؟
هنا، لا بد من القول إن تركيا هي أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى، كما أن أنقرة تملك علاقة لا بأس بها مع طهران ويمكنها بالتالي نقل رسائل بين الولايات المتحدة وإيران ومساعدة الأولى في ملفاتها الشائكة مع الثانية.
يضاف إلى ذلك، أن واشنطن ترى فرصة دائمة لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه بين تركيا وإسرائيل على المدى الطويل، وهو أمر حيوي بنظر أي إدارة أميركية أيا يكن على رأسها.
والسبب الأهم لاستبعاد القطيعة أن أي تباعد بين الولايات المتحدة وتركيا ستكون الجارة الروسية مستعدة لملء الفراغ الناجم عنه، مع نظر فلاديمير بوتين الدائم جنوباً إلى حوض المتوسط، وهو ما يغري تركيا التي أوصِدت أبواب الاتحاد الاوروبي في وجهها.
ويجب ألا ننسى أن العلاقات "الحقيقية" بين الدول إنما تقاس بحجم التبادل التجاري، وقد بلغ مجموع تبادل السلع والخدمات بين الولايات المتحدة وتركيا 22.4 مليار دولار عام 2016، وسجلت الصادرات الأميركية إلى تركيا 12.5 مليار دولار، والواردات 9.9 مليارات دولار، بحيث بلغ الفائض التجاري الأميركي مع تركيا 2.5 مليار دولار.
وتفيد أرقام وزارة التجارة الأميركية بأن صادرات الولايات المتحدة إلى تركيا دعمت نحو 68 ألف وظيفة في سوق العمل الاميركية عام 2015.
ولئن كانت الأرقام تراجعت قليلاً بعد 2015، فإن البلدين يبقيان شريكين تجاريين مهمين لا يمكنهما التفريط بهذه العلاقة. غير أن ذلك لا يعني أن لعبة "القط والفأر" ستنتهي بين الحليفين اللدودين، بل من المرجح أن تشهد مزيداً من الصعود والهبوط في موازاة سيرورة الحرب في سوريا والمسألة الكردية وسوى ذلك من ملفات شائكة.
{{ article.visit_count }}
سؤال كبير لطالما تردد في السنوات الأخيرة، خصوصاً على وقع الأزمة السورية والمسألة الكردية، وكذلك منذ أن أحكم رجب طيب أردوغان قبضته على السلطة. ولم تكن مشكلة القس الأميركي أندرو برانسون المحتجز في تركيا سوى حلقة حديثة من سلسلة التوترات بين البلدين، الناجمة عن دعم واشنطن لـ "قوات سوريا الديمقراطية" التي تعتبرها تركيا مجموعة ارهابية، وعدم تسليم الأولى الداعية فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا والذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية صيف 2016، وكذلك سعي الاخيرة إلى شراء منظومة "إس 400" الروسية للدفاع الجوي.
وبالعودة إلى الوراء لا بد من التذكير بـ "مبدأ ترومان" الصادر عام 1947 والذي يقول "حين يهدّد العدوان، مباشراً كان أو غير مباشر، أمن الولايات المتحدة الأميركية وسلامتها، يكون لزاماً على الحكومة الأميركية أن تقوم بعمل ما لوقف هذا العدوان". وقد طُبّق هذا المبدأ على اليونان وتركيا، تمكيناً لهما من مقاومة المدّ الشيوعي وعدم السماح للاتحاد السوفياتي بالتوسع أكثر جنوباً. وتُرجم ذلك بمساعدات اقتصادية وعسكرية لليونان وخصوصاً تركيا التي أصبحت عضواً في حلف شمالي الأطلسي 1952. كما انه منذ 1954 تعززت العلاقة بين واشنطن وأنقرة مع الاتفاق على استخدام القوات الأميركية قاعدة إنجرليك الجوية التركية.
كانت الأزمة الكبرى الأولى بين الجانبين الحليفين في الحرب الباردة، الموقف الأميركي من إرسال قوات تركية إلى الشطر الشمالي من قبرص عام 1974 إبان الحرب الأهلية القبرصية التي قسمت الجزيرة المتوسطية مما استتبع فرض حظر على بيع تركيا سلاحاً أميركياً.
وتوترت العلاقات بسبب فيلم سينمائي صدر عام 1978 بعنوان "ميدنايت إكسبرس" روى القصة الحقيقية لمعاناة أميركي دين بتهريب مخدرات وفراره من سجن تركي، مما اضر كثيرا بالقطاع السياحي التركي. ولم تصطلح الامور إلا عام 1980 حين وقّع الجانبان اتفاق التعاون الاقتصادي والعسكري الذي سمح للولايات المتحدة باستخدام 26 منشأة عسكرية تركية، مقابل حصول أنقرة على معدّات عسكرية أميركية حديثة.
وبعدما صارت تركيا حليفاً للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، كان القرار المفاجئ للبرلمان التركي بعدم تقديم مساعدات لوجستية للقوات الأميركية التي دخلت العراق 2003.
كذلك شكلت الحملة التركية على "حزب العمال الكردستاني" نقطة خلاف بين الجانبين في عهد الرئيس جورج بوش الإبن، واستدعت تركيا سفيرها في واشنطن عام 2007 على إثر موقف لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي من "الإبادة الأرمينية" إبان الحكم العثماني.
تحسّنت العلاقة عام 2009 عندما زار الرئيس الأميركي باراك أوباما تركيا، وأكد أهميتها كحليف وصديق. وجاء "الربيع العربي" ثم الأزمة السورية ليظهرا مجدداً التباينات بين الجانبين، وتصاعدت التوترات عندما اتهمت أنقرة واشنطن بدعم المحاولة الإنقلابية في يوليو (تموز) 2016، واحتضانها الداعية فتح الله غولن الذي تطالب السلطات التركية باستردداه لمحاكمته، وهو ما ترفضه واشنطن بحزم.
ويبدو أن الآلية التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون في فبراير الماضي حين زار تركيا لم تفلح في إعادة الأمور إلى طبيعتها بين حليفين عضويين في "الأطلسي"، بل استمرت التباينات لا سيما في ظل وجود شخصيتين قويتين على رأس الحكم في كل من البلدين: دونالد ترمب ورجب طيب أردوغان.
وأدت الأزمة الأخيرة المتعلقة بقضية القس أندرو برونسون، المحتجز في تركيا منذ نحو سنتين بتهمة العمل مع فتح الله غولن، إلى تهديدات أميركية بفرض عقوبات على أنقرة، ومع ذلك قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إنه "يمكن إنقاذ العلاقات وتحسينها إذا نظرت الإدارة الأميركية بعين الجدية إلى مخاوف تركيا الأمنية"، مضيفاً أنه "قد يكون لدى الرئيس الأميركي نيات حسنة تجاه العلاقات مع الرئيس رجب طيب إردوغان وتركيا، وسيكون هناك رد على ذلك عندما تستند العلاقة إلى الإحترام المتبادل والمصلحة المشتركة".
مهما يكن من أمر، يمكن الجزم بأن الثقة بين الطرفين ضعيفة . وفيما تخوض الولايات المتحدة صراعاً جيواستراتيجياً مع كل من الصين وروسيا عالمياً وإيران إقليمياً، فإن تركيا تتقارب مع موسكو.
لكن، هل يمكن أن تصل الأمور إلى قطيعة؟
هنا، لا بد من القول إن تركيا هي أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى، كما أن أنقرة تملك علاقة لا بأس بها مع طهران ويمكنها بالتالي نقل رسائل بين الولايات المتحدة وإيران ومساعدة الأولى في ملفاتها الشائكة مع الثانية.
يضاف إلى ذلك، أن واشنطن ترى فرصة دائمة لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه بين تركيا وإسرائيل على المدى الطويل، وهو أمر حيوي بنظر أي إدارة أميركية أيا يكن على رأسها.
والسبب الأهم لاستبعاد القطيعة أن أي تباعد بين الولايات المتحدة وتركيا ستكون الجارة الروسية مستعدة لملء الفراغ الناجم عنه، مع نظر فلاديمير بوتين الدائم جنوباً إلى حوض المتوسط، وهو ما يغري تركيا التي أوصِدت أبواب الاتحاد الاوروبي في وجهها.
ويجب ألا ننسى أن العلاقات "الحقيقية" بين الدول إنما تقاس بحجم التبادل التجاري، وقد بلغ مجموع تبادل السلع والخدمات بين الولايات المتحدة وتركيا 22.4 مليار دولار عام 2016، وسجلت الصادرات الأميركية إلى تركيا 12.5 مليار دولار، والواردات 9.9 مليارات دولار، بحيث بلغ الفائض التجاري الأميركي مع تركيا 2.5 مليار دولار.
وتفيد أرقام وزارة التجارة الأميركية بأن صادرات الولايات المتحدة إلى تركيا دعمت نحو 68 ألف وظيفة في سوق العمل الاميركية عام 2015.
ولئن كانت الأرقام تراجعت قليلاً بعد 2015، فإن البلدين يبقيان شريكين تجاريين مهمين لا يمكنهما التفريط بهذه العلاقة. غير أن ذلك لا يعني أن لعبة "القط والفأر" ستنتهي بين الحليفين اللدودين، بل من المرجح أن تشهد مزيداً من الصعود والهبوط في موازاة سيرورة الحرب في سوريا والمسألة الكردية وسوى ذلك من ملفات شائكة.