نصر خاطف حققته طالبان بسيطرتها على الحكم في أفغانستان؛ البلد الذي يسلمها مقاليد سلطة مفخخة بتحديات سقفها مرفوع في إحدى أفقر دول العالم.
تحديات جسيمة تزرع ألغاما في طريق حركة تحاول افتكاك صك "الشرعية" من النخبة المحلية المشككة بفكرها وقدرتها على الحكم، ومن الغرب، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي باتت محرجة حيال الوضع عقب التفجير الانتحاري المزدوج بمحيط مطار العاصمة كابول، والذي أسفر عن مقتل 13 من جنودها، الخميس الماضي.
الثقة
شكوك تساور الأفغان بشكل عام، سواء عامة الناس أو الطبقة المثقفة، حيال حقيقة "التغيير" الذي تحاول طالبان إظهاره عبر قرارات تبدو تقدمية وحداثية، بينها الاعتراف بالدستور وحرية الصحافة وحق المرأة في التعليم والعمل والقرار السياسي، وفق ما أعلن المتحدث باسم الحركة في أولى مؤتمراتها الصحفية عقب سيطرتها على كابول.
لكن رغم عربون حسن النوايا الذي قدمته الحركة، إلا أن معظم الأفغان لا يزالون مثقلين بذكريات فترة حكمها من 1996 إلى 2001، حين طبقت نموذجا متشددا من الشريعة الإسلامية، ومنعت النساء من العمل والفتيات من ارتياد المدارس، علاوة على إعدام معارضين سياسيين واضطهاد الأقليات الإثنية.
ذاكرة جماعية تجر إرثا من المآسي والويلات تجعل الأفغان -بعد عشرين عاما- عاجزين عن استيعاب مزاعم الحركة بتغيير فكرها المتشدد وانفتاحها على الحريات والحقوق، مدفوعين في ذلك بقراءات ترى أن الحركة تستثمر وجهها الجديد للمناورة والحصول على التأييد محليا وخارجيا قبل العودة إلى مسارها المتشدد الذي تنبني عليها أيديولوجيتها.
ولئن أبدت بعض المناطق الريفية في أفغانستان حيث كان يريد السكان انتهاء العنف قبل كل شيء، ترحيبا بعودة طالبان إلى السلطة، إلا أن العديد من الأفغان حذروا من أنهم لن يحكموا سوى على الأفعال، فيما لا تزال معظم النساء ترى في الخروج من منازلهن تهديدا لحياتهن.
أما في وادي بانشير شمال شرق كابول، فانتظمت مقاومة فعلية حول أحمد مسعود نجل القائد أحمد شاه مسعود الذي اغتاله تنظيم القاعدة في 2001.
الإرهاب
حين بدأت طالبان بالسيطرة على القرى والمدن الصغيرة قبل أسابيع، حذر خبراء من أن تتحول أفغانستان إلى ظهير للتنظيمات الإرهابية، أو معقل لها، وهو ما يبدو أنه يتجسد تدريجيا بإعلان تنظيم الفرع الأفغاني من داعش (داعش خراسان) مسؤوليته عن هجوم محيط المطار الذي أسفر عن مقتل العشرات بينهم جنود أمريكيون، وجرحى.
ومع أنه حين سيطرت الحركة على كابول، وأظهرت وجها مختلفا لملامح حكمها، استبشر البعض بأن ينتهي التهديد الإرهابي الذي يطوق البلاد، بما أن الاضطرابات فيها كانت ناجمة مؤخرا بالأساس عن القتال المندلع بينها وبين القوات الحكومية أو استهداف القوات الأجنبية قبل انسحابها.
لكن لم تؤد سيطرة طالبان إلى إنهاء التهديد الإرهابي كما أثبت الهجوم بمحيط مطار العاصمة، حيث تأكد أن البلاد مقبلة على فترة صعبة قد تشهد صراعا من نوع مختلف بين طالبان و"داعش خراسان" الذي يختلف مع الحركة في مجال الفقه والاستراتيجية رغم نهجه الإسلامي المتشدد الشبيه بها، وهو التباين الذي جعل التنظيم الإرهابي يصف الحركة بأنها "مرتدة"، ما يعني دخولها قائمة أعدائه، وبالتالي "حق" قتالها وفق فكره.
ومما تقدم، يبدو المشهد بالغ التعقيد بالنسبة لطالبان التي تجد نفسها اليوم أمام "واجب" الدفاع عن الأفغان من نفس نوعية الهجمات التي كانت هي نفسها تنفذها على مدى سنوات، بل قد تضطر لمقاتلة الفرع الأفغاني من داعش والذي يبدو أنه لن يقبل بأن تستأثر الحركة بالحكم لوحدها، بل قد يخلق لها جيوب توتر تماما كما كانت هي تفعل للحكومة المنهارة.
أزمات خانقة
علاوة على الإرهاب، تواجه طالبان تحديا آخرا لا يقل جسامة، فهي تعود إلى الحكم في بلد يعتبر من أفقر دول العالم، ويعيش سكانه بنسبة كبيرة على المساعدات الخارجية.
لكن مع وصول حركة مسلحة، يراقب المجتمع الدولي بحذر تطورات الأوضاع، ما يعني أن قرار تقديم المساعدات لن يكون فوريا في كل الحالات، وهذا ما أكده تدفق المساعدات الأجنبية على البلاد بمجرد سقوط الحركة في 2001، وتواصل الأمر حتى 2020، حيث شكلت المساعدات أكثر من 40 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الأفغاني.
أما حاليا، فإن السواد الأعظم من المساعدات معلقة بانتظار أن يتوضح المشهد وتقدم الحركة ضمانات حكم رشيد يقطع مع إرثها المتشدد العالق بالأذهان، كما أنها لا تتمكن من الوصول إلى الأموال في البنك المركزي الأفغاني الموجودة بغالبيتها في الخارج، وسبق أن أعلنت واشنطن أن طالبان لن تتمكن من الوصول إلى الأموال الموجودة على أراضيها.
حيثيات مرشحة لأن تحول الوضع في أفغانستان إلى كارثة حقيقية بمجرد أن تجد طالبان نفسها عاجزة عن دفع رواتب الموظفين الحكوميين وتسيير البنى التحتية الحيوية، وحتى إن لجأت إلى "مدخراتها" الخاصة، فإن إيرادات الحركة من أنشطتها الإجرامية سابقا لن تلبي احتياجات البلاد، وفق خبراء.
عزلة دبلوماسية
حين سيطرت طالبان في 1996 على الحكم، سحبت جميع الدول بعثاتها الدبلوماسية من أفغانستان، وبدا حينها أن العالم أجمع على مقاطعة حركة مسلحة، وهو السيناريو الذي قد يتكرر لكن في نسخة قد تكون أقل وطأة، في ضوء الاتصالات التي تجريها الحركة للتأكيد على حلتها الجديدة بما يطمئن الغرب ويمنحها الشرعية التي تنشدها.
لكن ورغم الاتصالات الكثيفة التي تجريها الحركة مع القوى الإقليمية، لم يعترف أي منها حتى الآن بالنظام الجديد في كابول، فيما حذرت واشنطن من أن طالبان يجب أن "تستحق" شرعيتها، بمعنى أنها لن تحصل عليها إلا عن استحقاق.
بلا كفاءات
تحد آخر يفرض نفسه على طالبان بالمشهد الأفغاني الجديد، يشمل هجرة الأدمغة وهروب الكفاءات، فالعديد من الأفغان المتعلمين من خبراء قانونيين وموظفين حكوميين وتقنيين فروا من البلاد عبر رحلات الإجلاء بالأسابيع الماضية.
نزيف يحمل الكفاءات الأفغانية إلى خارج البلاد، لتجد طالبان نفسها في بلد تصعب إدارته لغياب الكوادر، وهذا ما يثير قلقها بشدة، في ارتباك ترجمه حثها، الأسبوع الماضي، الغرب على إجلاء الأجانب فقط وليس الخبراء الأفغان مثل المهندسين.