جلست مع ذلك القلب المتسامح مع نفسه، الذي ينظر للحياة بنظرات الأمل والسعادة والإيجابية، والذي مرت عليه السنوات الثقال وهو يتعارك مع كبد الأيام وعراقيل الحياة، وها هو اليوم يستذكر كل تلك اللمحات الجميلة التي أثرت على حياته، وآن الأوان لقطف ثمارها لتكون دروساً في الحياة. إنه الأستاذ القدير الوالد العزيز الأستاذ محمود محمد عبدالغفار الذي مهما كتبت عنه وعن شخصيته وقلبه وذكرياته المفعمة بالحب والجمال، فلن أوفيه حقه أبداً. تعلمت منه الكثير في يوم ما وهو يحفظ كتاب الله الكريم بكل إخلاص وتفان، فهو يعطي كل طالب حقه من التعليم وتصحيح القراءة، ولا يقبل أن يرد أن طالب عن الالتحاق بالحلقة القرآنية وإن كانت لديه صعوبة في نطق الآيات، فهو يُجلسه بجانبه ويجعله «مستمعاً» للآيات القرآنية، وهو أسلوب تربوي جميل. أما في السلك التربوي فقد أكرمني المولى عز وجل للتعلم منه وصحبته في مدرسة البسيتين الابتدائية وهي المدرسة التي ظل فيها الأستاذ محمود مدرساً حتى التقاعد. في كل جلسة مع أستاذي العزيز أتعلم من ذكرياته دروساً في الحياة، لا تذكر في الكتب الفلسفية. بعد آخر جلسة جمعتني معه على العشاء قبل أيام، استذكر ذكرى جميلة لوالدتي رحمها الله، فلا يكن على البال أن تكون «والدتي» هي بطلة قصته الجديدة. نسأل الله تعالى أن يمتع أستاذنا القدير بالصحة والعافية وأن يطيل عمره في طاعته.

يقول الأستاذ محمود: «مازالت ذاكرتي تختزن منذ الطفولة كرم وعطف وحنان وحسن تصرف والدتك الكريمة ـ رحمها الله ـ حين دخلت أيام الطفولة بيت جدك الحاج حسن ـ رحمه الله ـ أوائل خمسينيات القرن الماضي بعد عودته من الحج، وبدأ بعض النساء توزيع هدية الحج على أطفال الفريج من خواتم ومسابيح وتمر وماء زمزم وصور الكعبة المشرفة، ولكني بقيت وحيداً واقفاً تحت شرفة علوية أنتظر دوري، وأذكر جيداً أن نظري مُصوَّباً جهة الشمال ويركز على الأيادي التي تضع هدية الحج في أكف الأطفال، وبقيت صامتاً أنتظر وأنتظر وكادت الخيبة تكون من نصيبي وتغشاني بظلامها. وفي لمحة سريعة تغير شعور الإحباط إلى بهجة الأمل حين سمعت صوت والدتك وهي تطل من الطابق العلوي تنادي وتؤشر بسبابتها على إحدى السيدات اللواتي يوزعن هدية الحج للأطفال قائلة: «مرت عمي، مرت عمي ـ تقصد امرأة عمي ـ». وذلك لتلفت انتباهها بأن هناك طفلاً لم يستلم الهدية، ثم أشَّرت والدتك ـ رحمها الله ـ بيدها جهتي وكأن لسان حالها يقول: «هنا طفل ينتظر دوره في الهدية لا تنسوه». وهذا المشهد الخالد والرائع والتربوي الجميل حفر صفة جميلة في ذاكرتي ما زالت عالقة في الذاكرة رغم الأعوام الطويلة التي انصرمت. تعلّمت من هذا المشهد ـ ومنذ ذلك التاريخ ـ صفة جميلة ولمسة تربوية رائعة، لا تصدر إلا من قلب حنون وأحاسيس ومشاعر مرهفة نحو الأطفال، وتعلّمت منذ ذلك الزمن خلق «جبر الخواطر» وبالذات جبر خواطر الأطفال، وترك ذلك المشهد الجميل أثراً ممتداً وراسخاً في ذاكرتي وطريقة تعاملي مع الأطفال أثناء التدريس وفي مرحلة التقاعد، فكلما أسعى لجبر خاطر طفل أتذكر موقف والدتك الذي لم يمح من الذاكرة وكان الدرس الأول وكانت المعلمة الأولى ولم أتلقَ هذا الدرس لا من البيت ولا من الفريج أو أصدقاء الفريج، ولكن للإنصاف وقول كلمة الحق تعلّمتُ أيضاً لاحقاً جبر الخواطر من أساتذتي الأفاضل: الشيخ عبدالله عجلان، والأستاذ جاسم عبدالعزيز المناعي في العام الدراسي ١٩٥٢/١٩٥٣ في المدرسة الجنوبية (أبوعبيدة)، ثم من أستاذي الفاضل: عبدالقادر جاسم بوحمود في العام الدراسي ١٩٥٩/١٩٦٠ في مدرسة الهداية الخليفية.

ومضة أمل

نحتاج أن نعلم الأجيال كيف يفكر الكبار، وكيف كابدوا الحياة ونثروا الأمل، وتعاملوا معها ببساطة وأريحية، نحتاج أن نربيهم على تلك المواقف والدروس حتى تنضج لديهم خبراتهم ويتعلموا أخلاق الحياة.