لكلّ مشرّد ومهجّر عربي ومغترب قصته التي دعته لشدّ الرحال وترك الأهل والخلان والأوطان على مضض، إلا حال المغتربين العراقيين فلكل واحد منهم قصته والتي تصلح أن تكون فيلماً هوليودياً.

فلقد أُرغِموا رَهَباً لا رَغَباً على الهجرة بعد احتلال العراق وبروز الطائفية المقيتة والفوضى والفساد، وكان يعزّ عليهم ترك جذورهم ليتحرّكوا كأَعجاز نخلٍ خاوية ليهيموا على وجوههم في البلدان كهشيم المحتضر.

فلقد كانوا قبل الاحتلال البغيض صامدين صابرين خصوصاً أنهم قد قاسوا سنيناً عجافاً في ظل حروب طاحنة وحرمان وحصار اقتصادي، وكان أملهم أن القادم سيكون أفضل لهم ولأجيالهم، علماً أن النُخب من أفراد الشعب العراقي كانوا يعلمون علم اليقين أن المحتل لم ولن يحمل معه الديمقراطية ولا الاستقرار، وزحف بجبروته دون أيّ برنامج يخدم البلاد ويُصلح أحوال العباد، وهذه هي طريقة الغازي الكاوبوي الأمريكي فتاريخه يشهد بأنه مدمر وليس معمّراً!

فحزم كفاءات العراق ورجالاته أمرهم واستغشوا ثيابهم مع جنح الليل ونفذوا بجلدهم خاصة بعدما بدأت حملة التصفيات والاغتيالات على عجالة بتوافق أمريكي إيراني كصفحة أولى من صفحات الثأر والغدر والانتقام ممن دخلوا فوق دبابة المحتل يجمعهم هدف واحد هو أخذ الثأر والانتقام من شعب أعزل لم يكن له ذنب في كل ما حصل من حروب وويلات.

فبدأت حملة ممنهجة في إزاحة كل ما يمتّ للوطن من عمق وأصالة، وقد طالت التصفيات الكثير من بُناة العراق وكفاءاته، ولم يقتصر الأمر على مضايقتهم واضطرارهم للهجرة بل تمت محاربتهم في أرزاقهم وعزلهم وحرمانهم من جميع حقوقهم تحت قوانين جائرة سنها سيئ الصيت بريمر تحت مسميات المساءلة والعدالة والكيانات المنحلّة، لتخلوا من بعدها البلاد تماماً من خيرة كفاءاتها وليتربع على مقدراتها الفاسدين والجهلاء، وليشاهد العالم بعدها وبأسره الانهيار السريع في العراق الجديد الذي بشرت به أمريكا وفي كل قطاعات الخدمات، فتدهور التعليم وأصبحنا في أسفل التقييم، وانتهت الزراعة وجُرفت البساتين وتيبّس سعف النخيل، وعُطّلت المعامل ونُهبت المصافي والمصانع ودُمّرت الآثار وهُدّمت المآذن والكنائس، وانتشرت المخدرات والموبقات ليسرح تجارها ويُلاحق عوضاً عنهم القضاة، وليحلّ محلّ الجيش السلاح المنفلت والميليشيات!

وللأسف فقد طال ليل العراق واحتلك سواده وعشش فوق مناراته وكنائسه الخفافيش والغربان!!

فلا تتوهموا أن المغترب مرتاح البال، فكما أن العراقي في الداخل يعاني من الحرمان ونقص الخدمات وفقدان الأمن وتكميم الأفواه والاضطهاد، فالمغترب لا تقلّ معاناته عنكم، فجلّهم يعاني من عشرات المنغصات في بيئة تختلف تماماً عن بيئته، ويتمنى اليوم الذي يتعافى فيه العراق ليعودوا إلى أهليهم وبيوتهم ويكملوا مشوارهم ثم يدفنوا بجوار آبائهم.

فالعراقي لا يصبر على ضيم وهو كالنخلة الشامخة من الصعب أن تعمر أو تثمر إن تم نقلها من أرضها، فسيبقى جذرها راسخاً مطموراً يبكيها وهي تبكيه.

اليوم غاية وحلم أي مغترب أن يشمَّ رائحة أرض بلاده القادمة من جبالها وسفوحها ووديانها وأنهارها وعيونها وأهوارها ونسيم نهريها الخالدَين ونخيلها والذي لا يشابهه عطور الأرض والذي يفوقه والقادم من طين أرضنا الطيبة الممزوج بقطرات مطر الخريف يخالطه الدخان المنبعث من فحم المسكوف والشاي المهيّل والقداح والشبو الليلي والريحان. قد أعلم أنها غَصة وأمنيات وربما تكون أضغاث أحلام، لكنها تبقى الأمل المنشود لمغترب من وراء الحدود.