مازالت «الشعبوية» مصطلحا عصيا على التعريف الدقيق. فهو خطاب أكثر منه توجهاً أو منهجاً سياسياً. حيث استخدمته مختلف التيارات السياسية اليمينية واليسارية. ونتج عنها أنواع مختلفة من الشعبوية: الدينية والقومية والماركسية وحتى الليبرالية. ويمكن القول إن الحركات الشعبوية ظهرت في الغرب مع تفاقم أزمة الديمقراطية الحديثة، ولكنها في العالم العربي تعبر عن الإخفاق في التحول المدني، وسعي كثير من التيارات عرقلة نضوج مؤسسات الدولة الحديثة والمستقلة.

والشعبوية في أبسط تعريفاتها وأكثرها اتفاقاً بين المفكرين هي حركات معادية للنخبة وللمؤسسات السياسية. وتعتمد في بنيتها على الإعلاء من قيمة الزعيم والقائد، وتقسيم المجتمع إلى شعب أصيل ونخب فاسدة. والموجات الشعبوية تصعد في الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية. وتجد لها بيئات حاضنة حين تستشعر فئات سياسية واجتماعية معينة التهميش السياسي أو الخطر الذي قد يهدد هويتها وتماسكها، لذلك برزت بوضوح في أوروبا وأمريكا في السنوات الأخيرة التي زادت فيها موجات الهجرة واللجوء، ما أدى إلى تصعيد خطاب أفضلية العرق الأنجلوساكسوني، والإسلاموفوبيا، والخوف على مستقبل القيم الغربية باختراق ثقافات متعددة ومعادية لتلك القيم نسيج المجتمع، وهذا ما وضع الحضارة الغربية في أزمة تناقضات، حيث تؤمن الحداثة الغربية بالحرية الفردية وحرية المعتقد، والتنوع وقبول الآخر؛ إذ إن الشعبوية تنظر إلى «الشعب» بصفته كتلة صماء متجانسة، ولا تؤمن بالتعددية والتباين في آراء ورغبات وطموحات فئات الشعب المختلفة.

ويرى الشعبويون أنهم من يمثل الرأي والتوجه الحقيقي للشعب، وأن النخب الرسمية «الممثلة» للشعب هي نخب فاسدة ترعى مصالحها في الدولة فقط، ولا يعارض الشعبويون الديمقراطية وتطبيقها، لكنهم يعتقدون ضرورة تحسين آلياتها لتعبر بشكل أكثر وضوحا عن هموم الشعب وتطلعاته. لذلك هم يرون الاستفتاء على القضايا المختلفة أكثر مصداقية من الانتخابات العامة، وقد حققوا نجاحاً واضحاً في هذا الاتجاه في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، ويتقدمون بشكل واضح مع تكرار الاستفتاء على استقلال أسكتلندا عن بريطانيا. ولا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تعزيز الخطاب الشعبوي كما لم يحدث من قبل؛ فالطبيعة المتحررة من القيود لتلك الوسائل تقاطعت مع طبيعة الخطاب الشعبوي، فساهمت في نشر الإشاعات والأكاذيب بدل الحقائق، وخلقت تعدداً مزيفا للآراء، وسمحت بخلق بيئة للكراهية والتنمر والتشهير مع ضعف الرقابة الرسمية والتشريعات الدولية. تزامن ذلك مع تراجع الثقافة والقراءة والتحليل الصحيح للوقائع ومجريات الأمور، والتعلق بالحلول السهلة والساذجة التي يقدمها الشعبويون لحل مشكلات المجتمع وأزماته.

وخطورة الخطاب الشعبوي تكمن في طابعه غير العقلاني، والذي يعادي العقل في كثير من الأحيان، واستمالته عواطف الجماهير التي قد تدغدغ غرائزهم وتحرض على العدوانية في بعض القضايا الوجودية الخاصة بالهوية والمعتقدات، وبذلك يصعب مجابهة الخطاب الشعبوي بخطاب عقلاني مضاد، فتلجأ مؤسسات الدولة والمثقفون أحياناً إلى الرضوخ للخطاب الشعبوي واستمالته والتماهي معه أحياناً لتجاوز موجات الشعبوية العاتية، وهذا الرضوخ صار يهدد القيم الديمقراطية في الغرب، ومازال يعوق التقدم نحو الديمقراطية في العالم العربي.