منذ ما يزيد عن نصف قرن، وعندما كنا أطفالاً لا نفقه الشيء الكثير عن المذاهب واختلافاتها، ومنذ ذلك الحين تشكلت لدى الكثير من أبناء جيلنا صورة مؤلمة بعد أن سمعنا وقرأنا وقص علينا آباؤنا واقعة الطف في كربلاء الحزينة، فكنا نتألم ونتفاعل معها ونصطف كل عام ومنذ ساعات الفجر مع مجموعة من الصبية على جانبي الطريق في بغداد، لنحيي جمهور الزوار المتوجه بعضهم إلى كربلاء سيراً على الأقدام والآخر إلى مرقدي الإمامين الجوادين عليهما السلام، عبر جسر الأئمة في مدينة الأعظمية، لإحياء تلك الواقعة وأخذ الدروس منها والعبر، وكانت عجائزنا يسهرن الليالي لإعداد الطعام للزوار بقدور كبيرة يوقد تحتها في الأزقة خارج الدور لضخامتها، وكان هذا هو واجب الجميع في كل عام.

وبعد أن يجتاز جموع الزوار الجسر بيسر وسلام نعود إلى بيوتنا منهكين لنتفاجأ أن بيوتنا يلفها السواد والصمت والحزن وكأن على رؤوس أهلها الطير، ولا نسمع إلا هدير المذياع الذي يبث واقعة الطف بصوت شجي للراحل عبدالزهرة الكعبي، وكانت دموعنا البريئة تنهمر عند مشاهدتنا لدموع آبائنا وأمهاتنا تجري من مقلهم، تفاعلاً مع الرادود وهو يقص بغصة تفاصيل تلك الفاجعة.

ومضت بنا السنون سريعاً ونحن على هذا المنوال، إلى أن كبرنا وتصلب عودنا ومن خلال شبكة علاقاتنا ومقاعد الدراسة الجامعية وحلقات العلم علمنا أن هنالك من يتعبد على طريقة أهل السنة والجماعة، ويطلق عليهم «أهل السنة»، ومنهم من يتعبد على المذهب الجعفري ويطلق عليهم «الشيعة الجعفرية أو الإثني عشرية»، لكن كل ذلك لم يمنع اندماجنا مع بعض وتزاورنا، وكم من مرة ذهبنا بمعية زملاء لنا إلى كربلاء والنجف للمشاركة في الزيارة سواء في عاشوراء أو غيرها من المناسبات الدينية، وكم كانت اللحمة بيننا في أوج عظمتها ليتحفونا هم وأهاليهم بكرمهم الحاتمي وجودهم العربي.

ولا أتذكر أبداً أني رأيت في كربلاء والنجف أني قرأت أي لافتة تمس بالسوء أي ملة ومذهب أو شخصية أو رمز إسلامي، ولم نسمع تصريحاً ولا تلميحاً بالإساءة إلى أي خليفة أو صحابي أو الانتقاص من شأنه، أو قذف لأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم، وكل ذلك هو تطرف لا يمت إلى عقائد الشيعة المعتدلة بشيء.

وبعد مرحلة عمرية أخرى، وبعد انتهاء مراحل دراستنا المتقدمة وانخراطنا في العمل الوظيفي، تعمقت علاقاتنا مع زملائنا الشيعة، وأخذت منا منحى آخر، فمنا من تصاهر معهم، ومنا من أسس لعمل تجاري مشترك، ومنهم وعلى قلتهم من لعبت بعقله الكتب الصفراء وابتعدوا عنا كلياً، لكنهم قد أبقوا على شعرة معاوية في العلاقات الاجتماعية، إلى أن حدثت الكارثة والطامة الكبرى، وسقط العراق في براثن الاحتلال الأمريكي.

برز عندها دور تجار الدين من الطائفتين بعد أن اندثر أو عزل أهل العلم والدراية والاعتدال ليؤسسوا لمرحلة جديدة ضاعت معها كل المعالم الجميلة والعلاقات الحميمة واللحمة الدينية والوطنية، فتحولت بسببهم هذه الواقعة العظيمة التي كانت نقطة اجتماع وتآلف واستذكار لقيم الشجاعة والبطولة والتضحية والإيثار لسيد الشهداء عليه السلام إلى حدث يؤسس للفرقة وزرع الفتنة والأحقاد والحث على الانتقام والثأر وبث الكراهية، بتزوير متعمد للحقائق التاريخية وتحميل الأمة وزر استشهاد الإمام الحسين عليه السلام!!

وهذا هو ديدن بعض سياسيي العراق وأحزابهم اليوم تاركين وراءهم بلداً مدمراً وشعباً يئن من جور حكمهم وفسادهم ومازالوا يستغفلون البسطاء وينبشون في خلافات من وحي عقولهم المريضة وهي لا تسمن ولا تغني من جوع.

سلام عليك يا سبط رسول الله يوم ولدت ويوم فاضت روحك شهيداً ويوم تبعث حياً.