نحن نعتقد دائماً بأن العمل في أروقة المحاكم يبني لك حاجزاً منيعاً ضد الصدمات الاجتماعية، ومع الوقت ينطفئ عنصر الصدمة بسبب تصرفات بعض البشر، لكن سرعان ما تدرك بأن هذا الشعور غير صحيح، وما زالت تصرفات وسلوكيات البعض غير السوية «طبعاً» تشعرك بالصدمة، وتتساءل في نفسك، هل لهذه الدرجة وصل السوء لدى البعض؟

وبحكم اهتمامي بالشأن القانوني، والذي مازلت متابعة له في بعض القضايا التي يتطرق إليها زملائي المتخصصون في تغطية القضايا في أروقة المحاكم، ومنهم زميلي أيمن شكل. فقبل يومين كنا نتناقش في قضية نشرها، تتعلق بابن طرد والده من مسكنه، وبدوره تواصل زميلي مع الأب الذي سرد له طرف الرواية، ثم تواصل مع الابن لسماع وجهة نظره كطرف ثانٍ للتأكد من رواية الأب.

أخذ زميلي أيمن يسرد لي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين الابن وملامح الدهشة والصدمة واضحة عليه، إذ اعترف الابن بكل برود بصحة الواقعة، فسأله عن السبب فأجاب بكل برود «تفكير أبوي قديم غير عن تفكيري»

دائماً مشاكلنا هي بسبب «اختلاف التفكير»، ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل الطامة الكبرى هو تعقيب الابن عندما طلب زميلي منه الحضور لمقر الصحيفة للقاء الأب والأخذ برأي الطرفين، وكانت النية الصلح وليس النشر، فكانت الصاعقة «موافق بس كم تدفع لي»!! يقول زميلي هل لكِ أن تتخيلي بأن ابناً يطالب البر بوالده «بمقابل»؟!

يقول المثل الشعبي: «فوق شينه قواة عينه» كان هذا الرد يختصر كل الحديث، فضلاً فإن الأب لم يتزوج وفضل تربية ابنه ووحيده، والذي يدفع أقساط الوحدة السكنية من راتبه التقاعدي، وقام كذلك بتسجيل البيت باسم الابن كونه رجلاً غير متزوج، علماً بأن الابن «عاطل» بعد خسارته لفرص العمل لثلاث وظائف جيدة، والأب حالياً متكفل بمسكن ومصرف ابنه وهو في العشرينات من العمر. الابن القادر على إعالة نفسه بنفسه، وبعد كل هذا يقول «كم تدفع» مقابل الصلح مع والدي؟

هذه القصة ليست الوحيدة طبعاً فهناك قصص أخرى، لكن هذه الحادثة لم تفتح باب العقوق بالوالدين، بل نبهت لبعد آخر وهو حقهم في السكن والاستقرار، وفتحت جبهة قانونية في أحقية آباء حاضنين لأبنائهم غير المتزوجين في مساكن سجلت بأسماء أبنائهم.

هذا الإجراءات تقوم بها وزارة الإسكان حفاظاً على استقرار الأسرة وكيانها، لكن هناك ثغرات قانونية تحتاج إلى تسليط الضوء عليها وتعديلها بنصوص واضحة وصريحة، تلزم الأبناء بحق الوالدين بالسكن معهم طوال العمر، وتنص على عقوبة مخالفيها. بهذه الطريقة نصون حقوق جميع الأطراف، فالله أعلم بدواخل النفوس، فحتى أقرب الناس إليك لن تأمن

شره أحياناً.