يفهم الأمن العربي في حقيقته بالمفهوم المتكامل في أن أي خطر يهدد أي جزء يؤثر على الكل، بمعني أن أي دولة عربية يهددها خطر ما فإنه يهدد كل الدول العربية، وهذه حقيقة جيوبولوتيكية غير قابلة للمصادرة، فالأمن العربي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهذه حقيقة أكدت عليها كل الحروب السابقة مع إسرائيل، وتأتي حرب غزة الآن لكي تؤكد عليها أكثر، واكتشفنا أن الأمن العربي بهذا المفهوم «مخترق» من قبل دول أجنبية لها مصالحها وخاصة نظام الملالي الإيراني، حيث ما إن بدأت الحرب حتى أخذ هذا النظام يحرك أذرعه الأربعة التي أوجدها في المنطقة العربية كالأواني المستطرقة، وإلا بأي حق يتجول وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان في المناطق العربية التي لإيران نفوذ فيها وهي لبنان واليمن وسوريا والعراق ويطلق تصريحات نارية ضد إسرائيل قبل وأثناء الحرب في غزة وقبل الهدنة؟ آخرها عندما قال في لبنان «إن يدنا لاتزال على الزناد»، بأي صفة يتحدث عبداللهيان بقوة مثل هذه ويطلق التصريح الصارخ وكأن لبنان محافظة إيرانية ويتسبب في أن يجعل الحراك السياسي العربي في وقف الحرب في غزة من عقد مؤتمرات وزيارات عربية عربية وعربية أجنبية تعترضها مثل هذه التدخلات من هذا النظام الإيراني في الشأن عربي؟

وأكثر من ذلك أن النظام الإيراني لم يكتفِ بالتواصل مع هذه الأذرع الإرهابية التابعة له، إنما عمل إلى أكثر من ذلك، حيث عندما اشتدت حرب غزة وبدأت الحرب البرية بدأت أذرعه الأربعة بأداء مهمتها عندما أعطاها الضوء الأخضر، فقامت الجماعة الحوثية في اليمن باحتجاز السفن في البحر الأحمر وتعطيل طرق الملاحة الدولية، وفي العراق بدأت ميليشيات الحشد الشعبي بإطلاق المسيّرات المفخخة على قواعد التحالف الدولي وبالتحديد على القوات الأمريكية في منطقة «عين الأسد»، وأخذت أمريكا بالرد على هذه الجماعات سواء في العراق أو سوريا، وفي لبنان أخذ «حزب الله» الموالي لها بإطلاق الصواريخ على المدن الشمالية في إسرائيل، وقامت إسرائيل بدورها بالرد عليه بقصف قواعد هذا الحزب في لبنان، ومن الجولان بدأت الصواريخ تطلق على غزة من جماعات موالية لإيران، ولكن هل كل ذلك يعبّر عن رغبة نظام الملالي الإيراني؟

في الحقيقة، نظام الملالي الإيراني لا يرغب في أن تتوسع نطاق هذه الحرب، ليس من منطلق خوفه على أطفال ونساء وشيوخ غزة والمجازر التي تُرتَكب بحقهم وتدمير مساكنهم، وغير معني بهم، فهو قد سبق أن قتل وسفك دماء السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين من قبل، ولايزال، ولكن منطلق موقفة الحقيقي من عدم توسّع الحرب في أنه يُدرك بأن بعد حرب غزة سوف يأتي الدور عليه آجلاً أو عاجلاً ليس من قِبَل إسرائيل فحسب، إنما من قِبَل أمريكا كذلك، وسوف تشل أذرعه الأربعة ومعهم حماس في مناطق النفوذ العربية، وذلك هو الخسران المبين لنظام الملالي ويصل لمرحلة التدمير لداخل طهران والمدن الإيرانية، وموقفه هذا ليس بغريب وخاصة بعد أن التقط الرسالة الأمريكية التي تمثلت في اتخاذ قرارات استراتيجية مهمة، وبالأخص إرسال حاملتي الطائرات «جيرالد ر. فورد» و«يو إس إس أيزنهاور»، والسفن الحربية التابعة لها، إلى شرق البحر المتوسط إلى جانب زيادة عدد أسراب الطائرات المقاتلة التابعة لسلاح الجو الأمريكي من طراز إف-35 وإف-15 وإف-16 وآي-10، وإرسال نظامين من أقوى أنظمة الدفاع الصاروخي إلى الشرق الأوسط، وهما بطاريات «ثاد» و«باتريوت»، وهي رسالة تعني على أرض الواقع جاهزية الولايات المتحدة للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، وفي مقدمتها الدفاع عن إسرائيل في حال اتسع نطاق الصراع، ولذا فإن هذا النظام الإيراني قرر كما هو متوقع الحفاظ على مستوى خجول في أزمة غزة عند حدود معينة تضمن له مواصلة الدعاية السياسية وترويج الشعارات، ولكن من دون تطوير أي موقف عسكري يضعه في صدام مباشر مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

هذه السيناريوهات التي يُجيد النظام الإيراني أداءها في كل القضايا التي تحدث في المنطقة العربية لن يستمر في إجادتها في كل مرة، إنما سوف ينكشف في حرب غزة هذه، والقادم في ما سوف يحدث له سوف يؤكد لنا ذلك.