مهما تقدم بي العمر ولدي من الخبرات ما لدي أحاول أن أستعيد بوح الزمن كله، من أول قطرة حليب رضعتها إلى آخر مقال أكتبه وخاصة في تلك الليالي التي يختفي فيها القمر وتبقى النجوم وحدها أسيرة تغذي خواطرها على أجفاننا، فلنتوقف أحيانا بعد كل هذا عند مواقف منها تاريخية وعفى عنها الزمن ورأيت فعلا أن الأساس لسلوك الإنسان هي الغرائز الفطرية اللاشعورية. وفي إحدى نظريات الفيلسوف فرويد يقول إن الإنسان يحمل في عقله وأفكاره ومخاوفه رغبات هي المحركات الأساسية لذلك الإنسان وما في داخله، ولكن بالتأكيد إن الغرائز الفطرية هي الأساس في سلوك الإنسان ومن هذا المنطلق لجأ إدورد بيرينز وهو منشئ ما سمي بالعلاقات العامة و«البرباغاندا».. هو المروج الرئيسي للفكرة القائلة إن حروب أمريكا وجهودها كانت بغرض «إدخال الديمقراطية إلى كافة أنحاء أوروبا». في أثناء الحرب العالمية الأولى عندما كان في لجنة الإعلام الأمني الأمريكي حينها ارتأى تحويل نظرية خاله الفيلسوف فرويد وهو شقيق والدته إلى استغلال ما بداخل الإنسان ليس من ناحية نظرية بل حولها إلى واقع تتحكم فيه الرغبات، وفي سنة 1928 كان هناك صراع بين شركات السجائر على محاولة الترويج لها ونشرها في الأسواق، «فقال إن عملية التسويق تكون هي الأفضل والأكثر تأثيرا عندما تعمل على تحريك غرائز الناس وفعلا استطاع أن يجعل من منظر السجائر رغبة وصورة لطيفة لتكون مادة تسويقية حيث استغل ربط السيجارة بالحرية وكانت نيويورك هي المدينة التي تريد أن تكون الظاهرة الحضارية لحرية المرأة فاستغل إدورد بيرنيز إحدى الاحتفالات حيث سرب خبراً لشارع، وكان مقصوداً حيث نشر أن هناك نساء يردن أن يشعلن مشاعل الحرية وفي وقتها لم يكن أحد يعرف ما هي شعلة الحرية، وأصيب شعب نيويورك بحس الفضول.. فأتى بيرينز بمجموعة من النساء الموديل وبحركة استعراضية وقفت النساء في أوج الاحتفال ونشوته ليخرجن السجائر وبابتسامة عريضة وهادئة أشعلن السجائر. وفي اليوم التالي انتشر في شوارع نيويورك بائعو الجرائد، وخرجت الصحف بكتّابها وصحفيّيها ليشيدوا بذلك المنظر وانبهارهم بما حصل.. فاقنع بيرينز العالم أن السيجارة والحرية هما في قالب واحد، وربط الإعلام بالإعلان، ونجحت شركات التبغ في البيع والترويج. وهذا بالطبع ليس من أدبيات الصحافة، ولا يجوز استغلال الصحافة والإعلام بصورة عامة في الإعلان المبطن وغير الواضح والمتفق عليه فكان لبيرينز الدور الأهم بتعليم العالم أن استغلال الإعلام في تحريك غرائز الإنسان له أدوار إيجابية وسلبية بحسب استغلالها وأن التسويق جزء لا يتجزأ من الإعلام.