منذ بداية ولعي بالأدب في بواكير مراهقتي، كانت تستوقفني أبيات وقصائد الفخر لدى العرب، من النبطي إلى الفصيح، تأثرت ببعضها وظللت أنشدها سنوات. ومع ذلك كنت أتساءل عن أغراض قائليها، إن جاءت بقصد الفخر المجرد أم لأسطرة شخوصهم على مد التاريخ، فالفخر المبني على مثالب حقيقية إنما هو مستحق، غير أن ذاك الذي يقوم على السفسطة إنما هو أسطرة منافية لحقيقة الأمور.

تجرني إلى هذا قصة من روائع التراث العربي، لغلام التقى الشاعر أبا العلاء المعري ليسأله: «من أنت يا شيخ؟» وعندما عرف أنه أبو العلاء المعري قائل البيت الشهير «وإني وإن كنت الأخير زمانه.. لآتٍ بما لم يستطعه الأوائل»، أجابه أن قوله هذا إنما هو قول طيب وثقة بالنفس، وإعلان الكفاءة والقدرة، ولكن الأوائل قد وضعوا «ثمانية وعشرين حرفاً للهجاء» كل حرف لا بد للكلام منه ويختل بدونه، فهل يمكنك أن تزيد فيه حرفاً يحتاج إليه الناس كبقية الحروف وينتظم الكلام به، فتكون قد أتيت بما لم تأتِ به الأوائل؟!! فذُهل أبو العلاء المعري مردداً: «والله ما عهدتُ لي سكوتاً كهذا السكوت من قبل».

لقد اختصر هذا الغلام كثيراً مما يجب قوله في حياتنا، تجد بعض الرفاق من حولك يتبجحون بمنجزات ليست ذات قيمة، ويلغون مساعيك نحو تحقيق أهدافك في لحظة وكأنهم جاؤوا بما لم يجئ به بشر، يسعون أحياناً لتدمير أمور عملت سنوات على بنائها والتأسيس لها، ليبنوا بالسفسطة إنجازات وهمية وينسبونها إلى أنفسهم، فإذا بهم يجاوزون حقيقة الفخر إلى الأسطرة. أبو العلاء المعري ليس الوحيد الذي بالغ في الفخر بنفسه بما يعجز عنه في الأصل، ولا المتشدق الوحيد بأمور تبدو أحياناً غير منطقية أو ممكنة، وإنما أمثاله كثيرون على مر الزمن.

* اختلاج النبض:

إن الانحرافات الصوتية التي أجرتها لهجات العرب وغيرهم لا تعد حروفاً جديدة، إنما هي انحرافات لا أكثر. وإن إحداث صوت جديد دون إكسابه دلالة واضحة ذات معنى بما لا يفضي إلى إثراء للغة في عدد ومعاني كلماتها، إنما هو نوع من الضجيج الأبله، لا أكثر ولا أقل.