يطبق على حنجرتك بيديه القزمتين، من دون أن يعبأ بشيء من آلامك، أو تأوهاتك الساخنة، تتحشرج أنفاسك، فتسمع صفيرها المتهدج، وتستعين بدفقة من ريقك الشحيح ولا فائدة، تجحظ عيناك فجأة من فرط السعال المجرِّح، ويمتلئ وجهك بدمع صاف شفيف، تدرك حينها أن ثمة شيئاً غريباً يحدثُ لك، وتفقد الإجابة.

يراوغك بمكيدةٍ متناهية، ويلعب بإحساسك بمهارة فائقة، فيرسل في أرجاء جسدك الذابل سهام صقيعه اللاذعة، فيخلخل العظام المرتجفة ويلدغ جلدك بقسوة، ولا يكتفي، فيسرق غرفك الهانئة ويعبث بممتلكات عافيتك المرتبة، وتسأل نفسك عن هذا الذي يجري معك، ولا تدري.

يداهم مملكتك الوادعة، بكامل قيافته، كجنرال باطش، هو أو أحد ذريته، ولطالما كنت تظن يا مسكين أنك ناجٍ من قبضته الغاشمة، مهما اقتفى أثرك، أو توسع في بلاد العباد، المهم أن الكائن الأسطوري دلّ ديارك أخيراً ووضعك في رأسه من حيث لا تحتسب، وقرر أن يغدق عليك شيئاً من إحسانه، وبعض بركاته التي ظل يوزعها على العالمين بالمجان طيلة العامين الماضيين.

تدرك أن ضيفك الكبير سيد قومه، ولا يُرد له طلبٌ، أو يوصد في وجه بابٌ، حتى أعظم زعماء العالم مالأُوه وفرشوا له البساط الأحمر، فهو لا يحتجب عنه بالحجّاب، أو يمتنع عنه بالعساكر، وأنت كذلك – مرغماً- تفتح له باب فمك على مصراعيه، وتمنحه بعض شريانك، ليدخل بلادك العامرة من أوسع العمر..

تلتقيه وأنت حاني الرأس، وهو مزهو بنفسه، مدجج بأشد الأوجاع، وتضطر أن تصافحه ويصافحك، ويقبّلك وتقبّله، وتأخذه في حضنك كطفل مدلل، بيد أنك تحس منذ اللحظة الأولى أن زائرك هذا ليس مجرد ضيف لطيف، أو عابر سبيل، أو حتى متسكع سرعان ما يهتدي، وإنما مقامه عندك سيطول مثل أي أحد من أفراد أسرتك، وقدر مقدور لا راد له.

يسايرك، ليسري منك مسرى الدم، يرشفك شهوة العافية مع أول رشفة دواء، لينغص عليك لذة العمر، فتمنحه فسيح جسدك الغض، مستسلما، مستمعا لنصحه الوقور، فتسري قشعريرة مسمارية بين لحمك وعظمك المدقوق، وترتفع حرارة دمك، تحدق في سقف الغرفة بعينين مبصرتين ولا تبصر، تحاول جاهدا بأطراف أصابعك المرتجفة، تتحسس الأشياء من حولك، فتعجز، وتكرر المحاولة، وتفشل كما لم تفشل من قبل، فتنزّ دمعة مهزومة على وجنتك وقد تغيرت ملامحها تماماً، تتلمس وريدك النافر في ظاهر يدك، فتشعر بسخونة لم تعهدها، لكنك لا تقوى على شيء من فرط الهزيمة..

يهبط ضيفك في الأرجاء، يتفقد أعضاءك السليمة، أو ما بقي منها، يمسكها واحداً واحداً، يقطف أجمل أزهار حدائق صدرك، يتلذذ على مشارف رئتيك الرطبتين، ويقرأ عليك بعض تعاويذه الخرافية، فتصدق أن مواجهتك معه باتت غير متكافئة ومهزومة أيضاً..

لكن طبيبك الذي تأخر يعودك، ويقرأ عليك شيئاً من دروس الشفاء، وآيات تضيء شمسك المنطفئة، ويمسح عن جبهتك العجوز غبار الضعف، ويغرز في ذراعك إكسير العزيمة، ويقول لك لا تعجل في الهزيمة كي لا تبور صحتك..

تنهض مغتبطاً، فتتوكأ على مشارفِ الأمل وتشحذ الإصرار على النجاة، فتكسر آلامك المصطنعة وتقذفها خارج السياج المستباح، وتبني مدينتك الجميلة من جديد، منتصراً بحياة معبأة بزهور الياسمين وتفتحات الأقحوان.. هذا أنا أعود وقد تخلصت من خلاصي بعد أن داهمني فيروس «كورونا» طيلة الأسبوع الماضي، وأتمنى العافية لكل الناس.