تعد عمليات حصر أعداد شهداء الثورة السورية، ضرباً من ضروب المستحيل، ذلك أن المأساة كبيرة، فهي أكبر من حجم الكارثة.. هي بركان مدمر بقوة ريخترية تفوق قوة وشدة الزلازل المعتادة، ذلك أن عملية الإحصاء عملية معقدة وشائكة في ظل الأوضاع والظروف الإنسانية التي تمر بها سورية، فالقتل والتدمير والتهجير مازال حتى إعداد هذا التقرير قائماً، ومازالت الشام وضواحيها ومدنها توزع الآلاف الشهداء، ومازال السوريون يقفون على حدود الدول المجاورة ينتظرون شق باب أو نافذة صغيرة تشرع لهم ليولوا الأدبار فراراً، من عمليات الإجرام والقتل الممنهج، الذي يرتكبه النظام السوري بحق شعبه، متبوعاً بميليشات وعصابات كثيرة ومتعددة، قدمت من كل فج عميق وقريب للدفاع عن ديكتاتور الشام.
ولأن عملية حصر الشهداء عملية ليست بالمهمة السهلة، فإن ذلك لم يمنع مكاتب دراسات إحصائية خاصة بالثورة السورية، ومجموعة من العاملين بحقوق الإنسان والموثقين في الداخل السوري، من إعداد إحصائية ترصد بشكل تقريبي عدد الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين والمهجرين والنازحين السوريين، حيث تبين الأرقام المرصودة حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها أبناء الشعب السوري، وحجم الجرح كبير جداً فاغر الفيه، مازال ينزف حتى هذه اللحظة.
وتشير إحصائية رصدها مجموعة من الناشطين السوريين، ومراكز البحوث، أن في كل 4 دقائق يعتقل النظام مواطناً، وكل 10 دقائق، يجرح النظام مواطناً، وكل 13 دقيقة، يغيّب النظام مواطناً، وكل 15 دقيقة يقتل النظام مواطناً، والأبشع من ذلك أن النظام السوري والميليشيات الإيرانية تقتل كل يوم 8 أطفال، ويقتل أيضاً 4 مواطنين تحت التعذيب.
فيما يهجر النظام السوري وفرق الموت الطائفية التي تدافع عن كهنوته كل يوم 5,000 مواطن، ويجبر 7,900 مواطن على النزوح في الداخل.
كارثة إنسانية
قفز عدد شهداء الثورة السورية، فوق حاجز الكارثة الإنسانية، وإن عدد القتلى والشهداء من السوريين أكثر أضعافاً مضاعفة مما يعلن ومما يعلم. وهذه حقيقة لن تتضح إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها تماماً. نعم ذلك أن حجم الكارثة الإنسانية في سوريا كبير جداً، ويفوق كل التقديرات المعلنة حتى الآن، ويصعب تحديده حالياً بصورة رسمية وموضوعية، بسبب ما يكتنف الأوضاع العامة من فوضى واضطراب. وهذه حالة طبيعية، نجد لها مقاربات ومشابهات في حالات أخرى، إذ تعذر ـ مثلاً ـ على البوشناق إحصاء قتلاهم وجرحاهم بشكل دقيق إلى أن توقف عدوان الصرب على مسلمي البوسنة والهرسك 1992 ـ 1995. وكذلك ضحايا نظام الجنرال بينوشيه في تشيلي في السبعينات من القرن الماضي، ونظام الخمير الحمر في كمبوديا في الثمانينات أيضاً. ولا يزال سراً حتى الساعة حجم قتلى وضحايا حرب الشيشان بين 1992 و1994 بسبب التكتم الروسي. والشيء ذاته ينطبق على سوريا حالياً.
إن أحد أهم الأسئلة التي تفرض نفسها وأكثرها إلحاحا الآن في سوريا هو: كم يبلغ العدد الفعلي للشهداء منذ بداية الثورة حتى الآن؟. بل كم هو العدد الفعلي الإجمالي لمن قتلوا من السوريين في هذه الفترة؟ بعبارة أخرى: كم هي فاتورة الأرواح البشرية من سكان سوريا التي تسبب بإزهاقها بشار الأسد في إستراتيجية الحل الأمني التي اختارها واتبعها رداً على تظاهرات شعبية سلمية محدودة خرجت تطالب بالإصلاح والحرية والكرامة؟.
هذا سؤال في غاية الأهمية لأن الإجابة عليه تكشف وتوضح أحد أبرز وجوه التراجيديا السورية، وهي الكشاف الرئيسي في حسابات الربح والخسارة، وفي عملية تقويم الأوضاع ومختلف جوانب ووجوه الثورة ومعالجة النظام لها، وتسلط الضوء على جرائم بشار الأسد التي فاقت جرائم بينوشيه في تشيلي وجرائم سلوبودان ميلوسيفتش وكراجيتش في البوسنة.
فئات الشهداء والقتلى
القتلى في سوريا ليسوا سواء بل ينقسمون إلى فئات مختلفة من حيث المواقع السياسية أو المواضع التي يوجدون فيها، ولكنهم جميعاً مواطنون سوريون في الأصل، لا فرق بينهم إلا ما فرقتهم به سياسة النظام الطائفية وسلوكه العدواني واستمالة أقسام من الشعب والجيش إليه دون سواها، ولذا يمكن بل ينبغي الحزن عليهم جميعاً كما كان يقول العقيد الشهيد أبو فرات أحد قادة الجيش الحر لأنهم سوريون. وفي نفس الوقت يمكن تفهم فرح المواطنين والثوار عندما يقتل واحد من عصابات النظام وجماعات الشبيحة المناصرة له جراء الفظائع التي اقترفوها بأيديهم النجسة، بعد أن خلق هذا النظام التمييز والانقسام فيما بينهم عن قصد وعمد، ليحمي نظامه ويضعف اللحمة الوطنية بين المكونات السورية، ويستطيع بمنطقه الأجوف اتهام الشعب كله بالتآمر عليه والعمالة للخارج فيما يقف وحده في خندق الممانعة.
وهذه الفئات هي :
أولاً ـ فئة” شهداء الثورة” وهم المواطنون الذين شاركوا في الثورة بالاحتجاجات الشعبية والتظاهرات وما تفرع عنها من أنشطة إعلامية أو سياسية أو إغاثية فقتلهم النظام إما قصداً عقاباً لهم على أنشطتهم، أو بشكل أعمى وعشوائي أي عقاباً جماعياً، وصولاً إلى المعارضين المسلحين والثوار المقاتلين خصوصاً ممن ينتسبون إلى الجيش الحر والتشكيلات العسكرية المشابهة.
ثانياً وثالثاً - فئة “ قتلى الجيش السوري النظامي” وفئة “الشبيحة “وهؤلاء يتكتم النظام على أعدادهم الحقيقية وأسمائهم ورتبهم تكتماً شديداً عن الرأي العام وعن ذويهم على حد سواء تفادياً لردود الأفعال من أهاليهم، خصوصاً بعد أن تزايد عددهم تزايداً كبيراً.
رابعاً ـ فئة يمكن تسميتها بالفئة ذات المصير المجهول وتتكون من “المعتقلين والمخطوفين”، من جانب النظام. ويعتقد أن كثيرين منهم قتلوا وأخفيت جثثهم في مقابر جماعية سرية.
أما بالنسبة للفئئتين الثانية والثالثة فالأمر ممهور بخاتم عسكري وسري جداً، ولا يمكن معرفة عدد من قتل من جيش النظام حتى الآن. وسيبقى الأمر هكذا حتى يسقط النظام وتفتح السجلات وتشكل لجان تحقيق تجري حساباتها وتقويماتها بشكل رسمي . بيد أن مصادر كثيرة بدأت تتكلم وتتداول أرقاماً مخيفة عن أعداد ضخمة بعشرات الألوف من الضحايا، وهو تقدير تدعمه المعطيات العيانية، لا سيما في العام التالي من الثورة حيث أخذت المعارك تدور يومياً بين الجيش النظامي والجيش الحر، ثم أخذت الكفة تميل لمصلحة الثوار وصارت قوات السلطة تخسر يومياً عشرات الجنود في جبهات واسعة تمتد من جنوب البلاد إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها. وتشير نفس المصادر إلى أن غالبية من يقتل من العسكريين هم من العلويين الذين يدافعون عن النظام باستماتة ويزج بهم أكثر من غيرهم في القتال نتيجة الثقة بولائهم للأسد. وتتداول هذه المصادر أن عدد العلويين الذين قتلوا حتى نهاية أكتوبر 2012 يقترب من 115 ألف شخص بين عسكري وشبيح مدني ورجل أمن. وهو رقم كبير لكنه يبدو قابلاً للتصديق ومعقولاً نتيجة ما نعرفه من معلومات هائلة عن اعتماد النظام على أبناء جلدته بشكل أساسي في القتال ضد الثوار وفي تشكيل فرق الشبيحة وإرسالهم للقتال في جبهات كثيرة تمتد من حلب وإدلب إلى حوران ودمشق ودير الزور. ويتحدث المواطنون عن آلاف الجثث التي تنقل من جبهات القتال إلى المستشفيات العسكرية في مدن الساحل لدفنها بدون أخبار ذويهم أو تسليمها لهم.
أما بالنسبة للفئة الرابعة فالتقديرات بشأنها تبدو مرعبة أكثر من سواها. وترجح دوائر كثيرة من الثوار والجيش الحر والمعارضة السياسية ومنظمات حقوق الإنسان المختصة بالحالة السورية والتي يبلغ عديدها أكثر من عشر منظمات تنشط داخل سوريا وخارجها إلى أن أعداداً من اعتقلتهم أجهزة الاستخبارات وقوات الجيش والتشكيلات الأخرى كالشرطة والشبيحة وقوات الحماية الشعبية المشكلة من البعثيين تقترب من 245 ألف شخص! وتعتقد المصادر العديدة أن الغالبية منهم قتلوا تحت التعذيب ودفنوا في مقابر جماعية لا أحد يعلم أين تقع وما تحويه من أجساد تمزقت تحت سياط جلادين متوحشين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم طريقاً.
سجون وأقبية
من المعروف أن في سوريا مئات المعتقلات والسجون والأقبية تديرها أجهزة الاستخبارات التي لا أحد يعرف عددها أيضاً وتمارس وظائفها بلا أي رقابة قانونية وقضائية، ومن يعمل بها معفى من أي مساءلة مهما بلغت جرائمه، وهناك ترسانة من القوانين تحمي رجل الاستخبارات من الملاحقة مهما فعل. ولا يزال السوريون الذين اعتقل أبناؤهم وذووهم منذ بداية الثورة ينتظرون عودتهم، ويأملون أن يروهم أحياء ثانية ولكن كل واحد منهم يقبض على قلبه بيده لأنه يعلم حقيقة أن الداخل إلى هذه المعتقلات مفقود والخارج منها حياً مولود. إلا أن القصص المرعبة التي أفشاها المعتقلون الذين كتبت لهم النجاة والمنشقون من ضباط الجيش والاستخبارات والشرطة عما يجري في أقبية التعذيب إنما تقلص نسبة الآمال بعودتهم إلى عالم الحرية.
وازداد الخوف والرعب والقلق بعد أن تحررت معظم مدن سوريا من سلطة الأسد وأجهزة استخباراته ولم يجد الثوار أعداداً كبيرة في المعتقلات التي سيطروا عليه، ولم يعد لدى النظام سوى مدينتي اللاذقية وطرطوس تنعمان بالاستقرار، وجزء من قالب العاصمة دمشق. فهل يعقل أن يكون ربع مليون معتقل سوري نقلوا إلى الساحل أو دمشق فقط؟. بناء على هذا الواقع تذهب التقديرات إلى أقصى زوايا التشاؤم المعتمة، وتعتقد أن معظم هؤلاء قد قتلوا ودفنوا سراً في مقابر جماعية.
وتشير بعض المعلومات إلى أن العقل الأمني العبقري للنظام ابتكر طرقاً وأساليب مبتكرة ومرعبة لإخفاء المعتقلين. فمن قائل إنه أوجد معتقلات سرية في مناطق جبلية تقع داخل الأراضي اللبنانية بحراسة حلفائه هناك وضع فيها المعتقلين المهمين لديه ليساوم عليهم في وقت لاحق. ومن قائل إنه وضع آلافاً أخرى من المعتقلين في حاويات عملاقة وضعها على ظهور السفن. في المياه السورية والدولية.
كثيراً من المصادر السورية المعارضة ترى أن أكثرية المعتقلين أصبحوا في عداد الموتى، ولكن بطريقة غير موثقة حتى الآن، أي أن هناك ما لا يقل عن مائة ألف معتقل هم في عداد الشهداء غير المسجلين، ولم يعودوا أحياء بين المساجين. وما يدعم هذه الفرضية أن مراسيم العفو العام الثلاثة التي أصدرها بشار الأسد لم تفرج إلا عن أعداد بسيطة جداً من المعتقلين والموقوفين الجنائيين وحسب. ويدعمها أيضاً أن نسبة عالية من المعتقلين ألقي القبض عليهم بدون إجراءات رسمية وأنكرت السلطات لاحقاً وجودهم عندها مما يسهل إنكار اعتقالهم وبالتالي يسهل التخلص منهم قتلاً ودفنهم سراً، وفي كثير من الحالات وجد المواطنون في شوارع مدنهم جثثاً عليها آثار تعذيب وحشي ومجهولة الهويات مرمية هنا وهناك مع القمامة والمزابل الكبيرة.
أربعة أضعاف
البيانات المعلنة يومياً عن الشهداء هي أقل كثيراً من الرقم الحقيقي بشهادة أكثر من مصدر. أهمهم رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان بسوريا محمود مرعي ورئيس تكتل يضم ست منظمات سورية أخرى تعمل على توثيق حالات الاعتقال والقتل والاستشهاد. إن ما يعلن حالياً من أرقام للقتلى في سوريا يومياً لا يمثل إلا ربع العدد الحقيقي.
ويقول مرعي: “نحن لا نسجل إلا الحالات التي تصلنا وتتوفر فيها شروط التوثيق القانوني، ولكن ثمة حالات كثيرة لا تصلنا ولا يحاول ذووها إبلاغنا بها لأسباب كثيرة واقعية، وهناك حالات لا تتوفر فيها بعض شروط التوثيق فلا نتبناها.
وتساءل مرعي كيف يمكننا ويمكن لمواطنينا الاتصال بنا أو توثيق حالات الوفاة والقتل في ظروف كالتي يعيشها السوريون، مؤكداً أن العدد الفعلي والحقيقي لضحايا الأحداث في سوريا هو أربعة أضعاف العدد المعلن على الأقل.
وفي حديث لطبيب أوروبي ذهب متطوعاً إلى شمال سوريا ومكث عدة شهور يداوي ويعالج المصابين ثم عاد إلى أوروبا قال نفس ما قاله مرعي، مؤكداً أن العدد الفعلي هو أربعة أضعاف ما يعلن على الأقل. إذن فعندما تقول التقارير الإعلامية والحقوقية إن عدد الشهداء اليوم بلغ مائتين وخمسين يكون العدد الصحيح هو أربعة أضعافه.
مشهد دموي وإبادة منظمة
نحن أمام مشهد دموي قابل للزيادة والاستمرار. نحن أمام عملية إبادة منظمة وجرائم ضد الإنسانية حسب التوصيف القانوني الدولي. ولعل هذه الأعداد الهائلة من القتلى والضحايا تبدو منطقية ومنسجمة مع واقع أن بشار الأسد زج بالقوات المسلحة السورية من أول يوم في أزمة كان يكفي للتعامل معها جهاز الشرطة والاستخبارات، وأن القوات العسكرية السورية المدججة استعملت أقوى الأسلحة الحربية الفتاكة، بما فيها الطيران الحربي والمدفعية الثقيلة والدبابات والصواريخ بما فيها أيضاً صواريخ سكاد وغراد ذات القوة التدميرية الهائلة، واستعمل الغازات السامة والأسلحة الكيماوية، وقصف المدن والأحياء المكتظة بالسكان والقرى الفقيرة ذات الأبنية المتداعية والطينية مما وفر شروطاً وظروفاً موضوعية لسقوط ضحايا بمعدلات عالية جداً.
استخفاف المجتمع الدولي
إن الدول الكبرى ظلت عن قصد وعمد تتعامل مع الحالة السورية باستخفاف واستهتار بدماء السوريين وأرواحهم وظلت تتعامل مع بشار الأسد كرئيس دولة وليس كمجرم دولي كبير مسؤول عن مصرع نحو أربعمائة ألف مواطن وتدمير دولة بكاملها، وما زالت هذه الدول تلهث وراء بشار الأسد وتقدم له الفرص ورخص القتل والمبادرات وتتوسل إليه الخروج إلى ملجأ آمن في دولة أخرى دون أن يتطرق أحد ولو عرضاً عن ضرورة محاكمته ومحاسبته كمجرم حرب. ولذلك لم يكن صدفة عدم الكشف عن حجم الكارثة وحجم الجريمة المقترفة لكي لا تزيد الضغوط العالمية والأخلاقية عليها مطالبة إياها بالتدخل لوقف المجزرة وحماية المدنيين وعموم الشعب السوري، مجزرة يجري التواطؤ الدولي بين الفاعلين والشهود والقضاة وقوات الضابطة العدلية لتصغيرها أربع مرات وإخفاء معالمها وآثارها.