جدلية الاقتصادوحركة المجتمع..أستاذ علم الاجتماع في جامعة البحرين، الدكتور نادر كاظم، يرى أن هناك جدلية كبيرة في ربط مفهومي النمو الاقتصادي والحراك المجتمعي، وأيهما الأكثر تأثيراً على الآخر، وفي هذا السياق يعتقد الدكتور كاظم أن النظرية الماركسية هي أقدم من أضاء هذا الجانب برصانة حيث الجدل بعلاقة الاقتصاد والمجتمع، مستشهداً بما قاله كارل ماركس إن «الوضع الاقتصادي هو ما يحدد الوعي الاجتماعي»، أو كما قال جون ديوي «السياسة ما هي إلا ظل للمشاريع الاقتصادية الضخمة في المجتمع» رابطاً السياسة بالوضع الاقتصادي.ولذلك لا يمكن إغفال دور الازدهار الاقتصاد في حركة المجتمع وحيويته، وبمعزل عن الازدهار أو التدهور ومدى انعكاسه على أوضاع المجتمع يمكن أن نسجل بعض الاستثناءات مثلاً؛ ففي البحرين بدأ الاقتصاد تقليدي معتمداً على تجارة اللؤلؤ ومع ذلك كان هناك نشاط مدني أهلي في المجتمع بداية بالتعليم والمكتبات والنوادي الأهلية، باختصار بدأ نشاط مدني من الناس أنفسهم وذلك مع تنامي الوعي العالم والتأثر بالحواضر من حولنا في مصر العراق الهند ومختلف مناطق التنوير في العالم العربي.ويضيف الدكتور كاظم أن النخبة التي نشأت في مطلع القرن العشرين في البحرين هي من قادت الاقتصاد، حيث بدأت تتحرك بحكم دخلوها ضمن مدار النفوذ الاستعماري البريطاني، فالعملية مترابطة تقريباً؛ لن يكون هناك اقتصاد مزدهر إلا بنخبة اجتماعية متعلمة وكفؤة، وهذه النخبة لن تزدهر إلا بوجود اقتصاد قوي ومتماسك، لذلك تسمى جدلية، وهي عبارة عن طرفين يتفاعلان التأثير في نفس الوقت، قد يكون في مرحلة من مراحل الاقتصاد له دور في التأثير وقد تأتي مرحلة أخرى ليس لها الدور الكبير في التأثير وربما تكون السياسة هي الأكثر تأثيراً في مرحلة معينة.ويستشهد الدكتور نادر كاظم بكتاب «لماذا تفشل الأمم»؛ حيث يتم طرح سؤال؛ ما هو السبب أن بلدين مثل كوريا الشمالية والجنوبية وهما من ذات القومية الجغرافيا والتاريخ يمتلكان أوضاعاً اقتصادية مختلفة تماماً، من حيث الانتعاش الاقتصادي في الجنوب، فيما يشهد الشمال تدهوراً حاداً في الاقتصاد، في ظل وجود مفارقة أوقبل التقسيم كانت كامل المشاريع الصناعية موجودة في الشمال، ويتابع الدكتور كاظم أن الكتاب يصل إلى نتيجة مفادها أن الازدهار الاقتصادي أو الإفقار ترجع أسبابه في حقيقتها إلى كفاءة عمل المؤسسات في الدول، فبوجود مؤسسات كفؤة وديمقراطية ومراقبة للمال العام يمكن تحقيق النمو الاقتصادي، ويتدارك الدكتور نادر أنهم ورغم تركيزهم على وجود مؤسسات «ديمقراطية»، إلا أن هناك أمثلة خالفت هذه النظرية، مثل الصين وسنغافورة على سبيل المثال، فهي دول غير ديمقراطية ولكن بها مؤسسات كفؤة لإحداث إنجاز اقتصادي، أظن العملية الجدلية بهذا المعني؛ فقد يؤثر الاقتصاد ولكن مستوى وعي المجتمع وتعلمه أو كما تسمى مستوى التنمية الاجتماعية داخل البلد لها دور في إحداث ازدهار اقتصادي أو العكس بإحداث تدهور اقتصادي. البحرين قبل النفطوعن شكل المجتمع البحرين قديماً، وقبل اكتشاف النفط وقيام شركة بابكو، يستحضر الدكتور نادر كاظم صوراً من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البحرين، مشيراً إلى أن المهنة الأساسية في البحرين كانت تجارة اللؤلؤ إلى جانب وجود بعض المهن والحرف البسيطة، إلا أن تجارة اللؤلؤ، ورغم المظالم الكثيرة للعاملين فيها، كانت عامل استقرار لاقتصاد البلاد نظراً لانعدام التفاوتات الطبقية الفاحشة بين الشعب، ولأن معظم الناس تعمل بنفس المهنة وتتلقى نفس الأجور، وبالتالي لم يخلق تفاوت اقتصادي حاد وفاحش في المجتمع. الأمر الثاني، حسب الدكتور كاظم أن المجتمع البحريني بقي مجتمع كفاف ومعتمداً على حاجياته الضرورية تقريباً ولم تفتح شهيته الاستهلاكية إلى أن حصل ما يسمى «انقلاب اقتصادي» منذ الثلاثينات فصاعداً وبشكل تدريجي لغاية السبعينات، وهو ما عرف بالطفرة النفطية، وهي التي خلقت الدولة الريعية وخلقت نموذج المواطن الاتكالي على الدولة، وعدا ذلك فالمواطن البحريني مجد ومجتهد ونشيط وباحث عن لقمة عيشه، وإلى اليوم لم تختف هذه الطبيعة في المجتمع البحريني رغم وجود الدولة الرعوية.ويضيف الدكتور كاظم أنه منذ السبعينات ومع الطفرة النفطية وتحول الدولة إلى أهم مشغل للاقتصاد والوظائف، بدأت الدولة تطرح نفسها كدولة راعية، ضمن ما يمكن أن يسمى زهو الثروات، فالدولة وجدت نفسها مسؤولة عن تقديم الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الإسكانية وخدمات الطرق المجانية، ولن أعزل هذا الموضوع عن المطالبات السياسية في السبعينات، فكان واحداً من حلول الدولة أن تتدخل ضمن هذا العقد الاجتماعي، على خلاف ما كان موجوداً في الدول الغربية، ويفسر الدكتور نادر «العقد الاجتماعي» الذي نشأ بدول الخليج بشكل عام بأن تتكفل الدولة بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين مقابل عدم التدخل السياسي (المشاركة السياسية)، مشيراً إلى أن هذا الوضع كان عامل استقرار في الدولة، مع وجود بعض الاختلاف عن رضا المواطنين أم لا، لكن المواطن كان يشعر بوجود خدمات أساسية مجانية لا توفرها بلدان أخرى لمواطنيها.وينوه الدكتور نادر إلى أن هذه الدولة التي تشكلت منذ السبعينات هي التي تواجه الامتحان الصعب مع مرور «منخفض جوي» يسمى انخفاض أسعار النفط. جدلية الديمقراطيةورفاه المجتمعاتوحول جدلية ارتباط الديمقراطية بوجود مجتمع الرفاه، يرى الدكتور نادر كاظم أن الفلاسفة منذ أفلاطون إلى الآن، مروراً بفلاسفة المسلمين، أشاروا إلى أن الغرض الأساسي من السياسة هو «إسعاد الناس»، والذي يمكن أن يترجم اليوم بمفهوم «دولة الرفاهية»، وبالتالي، وكما نرى اليوم، فإن هذا المفهوم المتحقق اليوم نراه في دول كثير وبغض النظر عن كونها ديمقراطية أو غير ديمقراطية، ويشير إلى أن هناك بعض الدول التي فيها حياة ديمقراطية ولكنها لا تملك اقتصاداً حقيقياً ولا تستطيع أن تقدم أي رفاهية لمواطنيها، وبالتالي فإن المقياس الحقيقي لذلك هو ما تملك الدولة من ثروات تستطيع من خلالها أن تقدم خدمات حقيقية للمواطن.ويتطرق الدكتور نادر إلى أن بعض المنظرين يقولون بعدم ضرورة الديمقراطية إذا كانت الدولة تستطيع أن توفر خدمات للمواطنين، منوهاً إلى أن جزءاً من هذا الحديث صحيح، ويضرب مثالاً على ذلك انتقال بعض الدول العربي من نظام أحادي وسلطوي إلى نظام ديمقراطي حديث ولكنه قد يأتي بعوائق وقيام نزاعات بين المكونات المجتمع تؤدي إلى ضياع الثروة بين السياسيين، وأفضل مثال على ذلك العراق، فالتحول الذي تم في العراق خلق تنازع سياسي اجتماعي ذهب بثروة ضخمة للصرف على العمل السياسي بدل التنمية، وأصبح المال يجري في أيدي السياسيين في حين تم إفقار المجتمع والمواطن، وهذا الأمر قد يتكرر في أكثر من بلد.ويوضح الدكتور كاظم أن المجتمعات تمر بفترة طويلة من التمهيد لتشارك السلطة، وحتى تتقبل كافة القوى السياسية فكرة التعايش والتشاركية فإنها تمر بمرحلة تصفية الحسابات مع الماضي، ولذلك فإن التحول لن يكون بشكل سلس.علاقة المواطنبالدولة الريعيةويعارض الدكتور نادر كاظم فكرة أن الدولة الريعية تفقد مواطنيها فكرة الانتماء للدولة والمجتمع، ويرى أن الفكرة قد تكون معاكسة تماماً، حيث يتعلق المواطن بالدولة لأنه يعتمد عليها في كل شيء، وهو شكل من أشكال الولاء للدولة مقابل الخدمات، حيث يشعر المواطن أنه يتميز عن غيره بما يقدم له من خدمات مجانية لا تتوفر مثلاً للأجنبي أو المقيم، ما يولد عنده شعوراً بالمديونية تجاه الدولة.ورغم ذلك يعتقد الدكتور كاظم إلى أن فكرة علاقة «الدائن والمدين» بين الدولة والمواطن علاقة خاطئة، والأولى أن تبنى على عقد اجتماعي يضمن إدارة سليمة للشأن العام ورقابة على المال العام، ويغفل المواطن في هذه العلاقة على أن هناك إشارات كثيرة في الدستور تدل على مسؤولية الدولة في توفير هذه الخدمات، والتي يجب أن يتم التشريع لها داخل البرلمان في قوانين ضامنة لها، وفي هذه الحالة وعندما تنخفض إيرادات الدولة مثلاً سيكون المواطن أكثر تفهماً وقبولاً لما يحصل، وبل وسيعطي المبررات للدولة في حال انسحابها من بعض تلك الخدمات. المجتمعوقبول التحولات..يتوقع الدكتور نادر كاظم أن الدولة لن تنسحب بالكامل من وظيفتها الريعية وبشكل مفاجئ، بل إن هذا الأمر سيكون تكتيكياً أو جزئياً، لأن الدولة ستستمر اللاعب الأساسي في الخليج بشكل عام، وستقوم لاحقاً بالتعويض على المواطن بطريقة أو بأخرى أو ما سيعرف لاحقاً بإعادة توجيه الدعم للفئات المستحقة والفقيرة والمتضررة من كافة المواطنين.أما بالنسبة للمجتمع، فيرى الدكتور نادر أنه سيتكيف مع الأوضاع القادمة ضمن سيناريو الانسحاب التدريجي للدولة، فيما ستلجأ الدولة إلى البحث عن مصادر أخرى للدخل مثل إقامة مشاريع صناعية كبرى أو طلب المعونة من دول الخليج أو حتى الاستدانة لمواصلة دورها كدولة راعية لمواطنيها. ولذل فإن المواطن سيتكيف مع الوضع الجديد ولسان حالة يتحسر على الأيام الماضية.وعن العلاقة الأفقية بين المواطنين في ظل الـوضاع الجديدة، فيشير الدكتور نادر إلى أن أخلاقيات المجتمعات ليست تصرفات ذاتية خاصة لكل مجتمع بشكل مطلق، وإنما تقيدها وتكيفها بتصرفات وأخلاقيات معينة الظروف المحيطة بها، فالكرم والطيبة والأخلاق مرتبطة بالظروف التي تمر بها المجتمعات، فهي من تكيف أخلاقياتها وتصرفاتها بدرجة كبيرة.ويشير إلى أن التغيرات الاقتصادية في دول الخليج بشكل عام، البحرين على وجه الخصوص، ستغير أموراً كثيرة في علاقات الناس الاجتماعية، تبعاً لأوضاعهم الاقتصادية، والتي ستنعكس تحولاً في الأخلاقيات والعادات والتصرفات الاجتماعية، وبالتالي ستتراجع العادات الاستهلاكية لدى قطاعات كبيرة، وستظهر بوادر إدارة اقتصادية جديدة في إدارة ميزانية المواطنين، وسيتخلص المواطنون من كثير من المظاهر التي كانت سائدة في العقود الماضية، وسيعاد ترتيب الوضع وتقليل المصاريف الاستهلاكية ومظاهر البذخ.وينوه الدكتور نادر إلى أن انسحاب الدولة، مع إشرافها على سير النشاط الاقتصادي، سيحدث بعض الأمور الإيجابية، فقد يسمح بانتعاش قطاعات اقتصادية أخرى، فقد تنتعش المبادرات الفردية والمشاريع الصغيرة والمتوسطة للمواطنين، وبالتالي فقد تخلق حالة اقتصادية جديدة للمواطن تكون أكثر فائدة له من الوضع القائم. وتنمي فكرة الادخار، التي لم تكن في بال الكثيرين رغم الطفرة الاقتصادية التي عاشها لسنوات.ويرى الدكتور كاظم إلى أن هذا التحول لن يكون قاسياً على المواطن، وسيتكيف مع الظرف الحالي ويعيد ترتيب أوضاعه المالية، فالمواطن البحريني لديه من الكفاءة والديناميكية لما يعينه على ترتيب أوضاعه بمعزل عن الاعتماد على الدولة بشكل كلي.المجتمع المدني والمرحلة المقبلةيرى الدكتور نادر كاظم إلى أن نشاط المجتمع المدني كان يجب أن يظهر للعيان في ظل الطفرة الاقتصادية التي كانت تعيشها الدولة، أما في المرحلة المقبلة فإن الدور المطلوب يجب أن يكون أكثر فعالية من ذي قبل، فانسحاب الدولة من بعض وظائفها التقليدية يوجب وجود نظام صارم للمراقبة والمحاسبة، إضافة إلى تفعيل دور وسائل الإعلام كسلطة رابعة، وكل ذلك أدوار حقيقية لا ترتبط بالضرورة بوجود الدولة الريعية أو غير الريعية، فمؤسسات المجتمع المدني يجب أن تكون موجودة في كل الأحوال وقادرة على الرقابة والمساءلة والمشاركة في تقديم آرائها وتصوراتها.ويعتقد الدكتور نادر أن المؤسسات القائمة حالياً غير قادرة على أداء مهامها، فمجلس النوب لا يؤدي الدور الحقيقي والأساسي له، وهو الرقابة، ويرى أن الديمقراطية الحقيقية ليست ديمقراطية التشريع وإنما ديمقراطية الرقابة والمساءلة، وهذا هو الدور المطلوب من البرلمان والصحافة على حد سواء، ويضيف بأن معظم النواب يكتفون بتوجيه الأسئلة للمسؤولين من قبيل الاستعراض ولذر الرماد في العيون أو حتى لمساومة الوزير على مصالح خاصة أو خدمات مرتبطة بالدائرة الانتخابية للنائب.ويختتم الدكتور نادر كاظم حديثة بالإشارة إلى أن قوة مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية الوطنية هي مصلحة عامة للدولة والمجتمع، لأنها تعمل على تصحيح الأخطاء ومعالجتها، وهو ما يعود بالنفع على الجميع ليكونوا شركاء حقيقيين في التنمية وفي بناء الدولة.
970x90
970x90