في أبسط تعريفاتها تعرف الدبلوماسية على أنها «فن المفاوضات» وأنها «عملية» قائمة على تعزيز المصالح بين أقطاب معينة، وتطورت في العقود العديدة الماضية لتمد أذرع تعاون بين كثير من الدول وتوجد تمثيلاً دبلوماسياً لها في أقطاب الأرض لتأمين المصالح وتعزيز العلاقات.لكن في عصرنا الحديث، ترسخت القناعة بأن كل مصطلح يرى على أنه جامد أو ثابت بالنظر لقالبه الضيق مآله إلى التغيير خاصة في ظل وجود عوامل تفرض هذا التغيير.الدبلوماسية كمثال تطور مفهومها بشكل ملحوظ، واختلفت ممارساتها بتقادم الزمن من خلال التأثر بعدة عوامل بدأت طلائعها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي (25 ديسمبر 1991) وصولاً إلى «ثورات الربيع العربي»، بيد أن كثيراً من المراقبين يعزون هذا التطور لهيمنة سياسة «القطب الواحد» المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية والتي نجحت –بحسب وصفهم- في تشكيل الدبلوماسية من جديد بما يواكب تطورات العصر عبر أحداث مؤثرة حصلت وشكلت مفارق طرق، إضافة لفرض مفهوم جديد لها –أي الدبلوماسية- وهو مفهوم غير مكتوب بقدر ما هو مفهوم يتكشف من خلال الممارسات والاستراتيجيات المطبقة، بحيث باتت الدبلوماسية توصف على أنها الوسيلة الأقوى تأثيراً على الساحة العالمية، والأسلوب الأمثل في فرض السيطرة بمعزل عن «القوة الخشنة» المتمثلة باستخدام العنف والحروب، حيث باتت تعتبر «القوة الناعمة» هي القوة الحقيقية التي من خلالها تحقق القوى العظمى كثيراً من المكاسب.يجمع المراقبون على أن هناك عوامل أساسية ساهمت في تشكيل «الدبلوماسية الحديثة» وإخراجها من قالبها التقليدي السابق، يلخصونها كالآتي:أولاً: انهيار الاتحاد السوفيتي؛ بحيث انتهت نظرياً ما أسميت بـ «الحرب الباردة»، ووضعت «حرب القطبين» أوزارها رسمياً، وتخلصت الولايات المتحدة من غريمها التقليدي الذي تفكك إلى دويلات وبدأ بالانشغال بنفسه، ما نصب البيت الأبيض على أنه صاحب الكلمة الأقوى في فرض السياسات العالمية وتقرير مصير كثير من القضايا المحورية. لدى الكثيرين سقوط «الدب السوفيتي» أخل بموازين القوى العالمية، لكن بالنسبة للولايات المتحدة كان إعلاناً لبدء مرحلة «القطب الواحد» مانحاً إياها مجالات للتفكير بإجراء تحديثات ذكية على مفهوم الدبلوماسية وممارساتها.ثانياً: اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر؛ لم يكن الحدث مقتصراً على الولايات المتحدة باعتبارها المستهدفة وأن ترابها كان مسرحاً للأحداث، بل الاعتداءات التي جرت في الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 ألقت بتداعياتها على العالم بأسره وحولت مسار الاهتمام الأمريكي إلى نطاقات غير متوقعة. فرغم الكارثة التي حصلت وأودت بحياة قرابة ثلاثة آلاف شخص إلا أن الهجمات أسست لحرب عالمية «ثالثة» لكن مسيرة من طرف واحد أطلق عليها اسم «الحرب على الإرهاب». يومها ظهرت سياسة من نوع جديد أطلق عليها جورج بوش الابن سياسة «إن لم تكن معنا فأنت ضدنا». الاعتداءات غيرت خارطة العالم السياسية، وغيرت مفاهيم دبلوماسية عديدة، فمفهوم «القوة الناعمة» حل محله مفهوم «القوة الخشنة»، بتوجه الجيوش الأمريكية لغزو أفغانستان والعراق بذريعة القضاء على أسامة بن لادن وصدام حسين في حين أن الواقع تمثل بأن الاثنين مرادفان لمكاسب عظيمة هي على التوالي «ثروات بحر قزوين» و»نفط العراق». المثير هنا بأن بدء الحرب على الإرهاب تم بمعزل عن موافقة الأمم المتحدة وبطريقة كشفت بأن الدبلوماسية الأمريكية لا تتردد في ضرب الرأي الدولي بعرض الحائط إن خالف مصالحها.ثالثاً: الأزمة الاقتصادية: بدأت في سبتمبر 2008 واعتبرت الأسوأ منذ «الكساد الكبير» في عام 1929، لكن الغريب أن الأزمة بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية لكنها سرعان ما انتشرت بطريقة «الفايروس» إلى الدول الأوروبية ومن ثم الآسيوية ووصلت لتضرب اقتصاد الخليج. خطة الإنقاذ الأمريكية التي وضعت شكلت منحنى جديداً للدبلوماسية الحديثة، حينما عمدت واشنطن لإقحام العالم برمته في الأزمة، وأوحت بأن الحلول ستكون نابعة من الرؤية الأمريكية المطلقة. الدبلوماسية تحولت هنا لخطة إنقاذ للاقتصاد الأمريكي في المقام الأول وفتحت باباً لتحركات واسعة لوقف تفاقم الوضع عبر الاستفادة من هيمنة «القطب الواحد» سياسياً واقتصادياً وبث أذرع استثمارية وحلول اقتصادية في مختلف دول العالم.رابعاً: ثورات الربيع العربي؛ وهي آخر الأحداث الطارئة على الساحة العالمية والتي يعتبرها المراقبون عاملاً مؤثراً في شكل الدبلوماسية الحديثة، بالأخص مع تغيير الأنظمة وصعود جماعات مختلفة الفكر والتوجه عن سابقاتها في بعض الدول، وهو ما يفرض تغييراً في التعامل من قبل القوى العالمية يصل لمرحلة تأسيس علاقات من الصفر في مضمونها لا شكلها، بيد أن الأهم كان الدور المحوري الذي لعبته القوى العالمية بالأخص واشنطن في تعاملها مع هذه الثورات، خاصة وأن واشنطن بات ينظر لها بأنها «عراب» هذه الثورات عبر ربطها بمخطط «الشرق الأوسط الجديد» الذي أعلنت عنه وزير الخارجية السابقة كوندوليزا رايس في عام 2005 ذاكرة بشكل صريح أن واشنطن ستلجأ لنشر «الفوضى الخلاقة» في منطقة الشرق الأوسط بهدف نشر الديمقراطية والحرية في هذه الدول، الأمر الذي ربطه المراقبون بمخطط المستشرق البريطاني الأصل الأمريكي «برنارد لويس» الذي وافق عليه الكونجرس الأمريكي بالإجماع في عام 1983 والذي يهدف إلى تقسيم وتفتيت الدول العربية إلى دويلات على أساس ديني ومذهبي وطائفي.العوامل الأربعة تعتبر الأضلاع الرئيسة في عملية تحديث مفهوم الدبلوماسية وإخراجها من القالب الاعتيادي وتحويلها إلى ممارسة تهدف إلى تعزيز مواقع القوى العالمية على الخارطة الدولية عبر مد النفوذ والتحكم أكثر بمصائر دول أخرى. بيد أن هناك من يضيف على هذه العوامل الأربعة عوامل أخرى يرى لها تأثيراً هاماً على تغيير مفهوم الدبلوماسية، إذ اعتبرت حرب تحرير الكويت في عام 1991 مدخلاً للقوى العالمية لتحويل الخليج العربي لمنطقة عمليات تمارس فيها الدبلوماسية الحديثة آخر مبتكراتها، إضافة لعامل مهم جداً في عصرنا الحالي المتمثل بثورة التكنولوجيا وسطوع نجم الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها أداة تغيير وتأثير غير مرتبطة بحدود جغرافية أو قيود قانونية، وهي ما يصفه كثير من الباحثين على أنها «الدولة الخفية».يظل السؤال هنا بشأن الدواعي التي أدت لقبول قادة الحراك العالمي من أقطاب بأن تتغير الدبلوماسية وتخرج من قالبها التقليدي لقالب حداثي قد لا يكون مقبولاً في عقود ماضية، وما إذا كان بمقدورهم حماية الدبلوماسية التقليدية من تأثير العوامل المذكورة أعلاه.النقاشات تتمحور هنا حول تقييم عملية «التحديث» هذه، وما إذا كانت ستفضي لمكاسب أكبر من تلك التي كانت تتحقق من وراء الصيغة القديمة، الأمر الذي يكشف بأن الدبلوماسية تحولت في عصرنا الحديث لوسيلة فرض نفوذ لا تعزيز علاقات، ولوسيلة تحقيق مكاسب لا شراكة متوازية.الدبلوماسية الحديثة أفضت لكثير من النتائج على رأسها التالي:أولاً: عززت سيطرة «القطب الواحد» بعد تهاوي الأقطاب الموازية أو ضعفها، وبات بالتالي اللعب على المكشوف، بحيث أصبحت حتى الحروب تبدأ بدوافع واضحة، ويتم المضي فيها حتى لو كانت الأسباب «مبتدعة».ثانياً: أوجدت فرصاً للوصول إلى عمق المناطق الاستراتيجية تحت شعارات عديدة، سواء الحرب على الإرهاب، أو إنقاذ الاقتصاد العالمي، أو نشر ثقافة الحريات وحقوق الإنسان والسعي للديمقراطية. وفي كل ممارسة يمكن قياس المكاسب العديدة التي تتحقق لمن يكون «متعهد» هذه الحملات.ثالثاً: نقلت العالم من مرحلة الحرب على الإرهاب إلى مرحلة الانشغال بنفسه عبر الثورات والاضطرابات وحالة اللاتوازن، بما جعل الاحتياج للقوى العالمية أمراً مفروغاً منه، خاصة بالنسبة لعملية تأسيس دول من الصفر تحت ذرائع زرع مفاهيم الديمقراطية وإيجاد موطئ قدم هنا وهناك وضمان الاحتياج الدائم لهم.الخلاصة تتمثل بأن العوامل عديدة تلك التي أثرت في شكل الدبلوماسية وغيرتها عما كانت عليه، لكن العوامل نفسها لم تكن سبباً في ذلك بقدر ما كانت رغبة القوى المهيمنة حينها في الاستفادة من هذه العوامل لتطويعها في سبيل تحويل الدبلوماسية لأداة أكثر فاعلية في تحقيق مزيد من المكاسب وتعزيز النفوذ بشكل أكبر عن السابق.