أ.د. جهان العمران - أستاذة في علم النفس التربوي

تذكرت والدتي رحمها الله عندما كان أحد الضيوف يبالغ في زياراته المتكررة أو المبالغة في طولها إلى بيتنا، كانت تقول: «زُر غِبّاً تزدَد حُباً»، ولكنها كانت تسأل بلهفة عنه إن طال غيابه عنا. هذه الكلمات العميقة، والتصرفات العفوية تعكس في الواقع حكمة بالغة، فكما يُقال، كي يبقى الجميل جميلاً، لا يجب الاقتراب منه أكثر من اللازم، وكذلك يجب عدم الابتعاد عنه كثيراً.

ويجب أن نفهم قانون المسافات. كما قال أحد الحكماء: «المسافة بين الأرض والشمس هي التي حمتنا من الاحتراق والتجمد، والمسافة بين الكلمات تجعلنا نفهم ما نقرأ، والمسافة بين السيارات تحمينا من الاصطدام».

ولنأخذ عبرة من عالم الحيوان، حيث لاحظ الفيلسوف شوبنهاور فيما سماه بـ«معضلة القنفذ»، أن القنفذ في الشتاء يقترب من أبناء جنسه بحثاً عن الدفء، لكنه يشعر بالألم بسبب أشواكهم. فيقرر الابتعاد، لكنه يشعر بالبرد، وهنا تظهر المعادلة الصعبة: لا الاقتراب مريح ولا البعد مفرح.

الحل الذي وجده القنفذ هو اختيار مسافة معينة تكون قريبة بما يكفي للدفء، ولكن بعيدة بما يكفي لتجنب الألم. سماها شوبنهاور «المسافة الآمنة».هذا ينطبق أيضاً على البشر.

عندما يبتعد الإنسان عن الناس لفترات طويلة، يشعر بالوحدة والعزلة، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن الاقتراب الشديد من الآخرين قد يصبح مصدراً للألم والضغط النفسي. هذا يجعله يعود إلى حالة من التباعد بحثاً عن الراحة.

لذا فإن السر في بناء علاقات اجتماعية ناجحة يكمن في فهم المسافة الآمنة بيننا وبين الآخرين، بحيث لا تكون المسافة بعيدة جداً لدرجة العزلة ولا قريبة جداً لدرجة الاختناق، أي المطلوب هو الوصول إلى المسافة الآمنة، أي الحل الوسط الذي يحقّق التوازن النفسي لنا، ويحافظ على الشعور بالانسجام والراحة في علاقاتنا مع الآخرين.