نداءات استغاثة في ريف دمشق لمن يعرف دهاليز الوصول إلى "غياهب النسيان"
كان "المسلخ البشري" هو الوجهة الأهم للسوريين بعد أنباء سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، على أمل العثور على أثر لأناس انقطعت أخبارهم منذ فترة، تراوحت بين شهور وعدة عقود، عن آباء أو أمهات، أبناء أو بنات، أزواج أو زوجات، بل وحتى أطفال أيضاً.
كان العنوان هو سجن صيدنايا الشهير في ريف دمشق، حيث لا تزال المحاولات مستمرة من جانب سكان محليين للوصول إلى معتقلين في أقبية تحت الأرض، إذ يتعذر معرفة المداخل والدهاليز في ظل فرار مسؤولي وحراس السجن الذين يعرفون طريقة الوصول إلى هذه الأماكن التي تجسد المعنى الحرفي لعبارة "غياهب النسيان".
تابع آخر أخبار سوريا بعد دخول فصائل المعارضة المسلحة العاصمة دمشق وسقوط نظام الأسد، وسط ترقب لترتيبات انتقال السلطة وشكل الحكم في المرحلة المقبلة.
وفي وقت سابق خلال الساعات الأولى من الأحد، وبالتزامن مع انهيار النظام في العاصمة، سيطر مقاتلون تابعون لفصائل المعارضة على سجن صيدنايا الشهير باسم "المسلخ البشري"، والذي يضم آلاف المعتقلين السياسيين، بما في ذلك نساء وأطفال وكبار في السن، وسرعان ما انتشرت مقاطع فيديو لكسر أقفال المهاجع والزنازين وتحرير من بداخلها، إلا أنه تعذر الوصول إلى معتقلين آخرين محتجزين في أماكن سرية تحت الأرض ضمن حرم السجن.
السجون السرية في صيدنايا
وتم تداول مشاهد لمحاولة بعض الأشخاص البحث عن أي منفذ يمكنهم من دخول السجون السرية لتحرير من فيها، مطلقين مناشدات لاستقدام مختصين أو خبراء يستطيعون فك لغز هذه الأماكن المروعة، كما وصفوها.
وخرج مئات المعتقلين من الطوابق العلوية لسجن صيدنايا بمساعدة عناصر من الفصائل وسكان محليين، في حين لا يزال هناك مئات المعتقلين، وفق التقديرات، في طوابق سفلية، يعيش المحتجزون فيها ظروفاً غير إنسانية".
وأكد المكتب الإعلامي لمحافظة ريف دمشق أن "الوضع في سجن صيدنايا مأساوي"، لافتاً في بيان إلى أن "هناك أعداداً كبيرة في الطوابق السفلية لم يستطع أحد الوصول إليها حتى الآن رغم الجهود الحثيثة".
ووجه البيان نداءً قال فيه: "من لديه معلومات عن كيفية الوصول إليها، ليتجه إلى السجن أو يبلغنا بها".
وتوجه الكثير من الأهالي من مختلف المناطق السورية إلى صيدنايا لمعرفة مصير أبنائهم المعتقلين في السجن، والذين قضى بعضهم عقوداً في "المسلخ البشري"، الذي كان أحد أكثر مظاهر الرعب في ظل حكم نظام الأسدين، الأب والابن.
مقاطع فيديو
وأظهرت مقاطع فيديو أطفالاً صغار كانوا محتجزين في سجن صيدنايا الذي روّع السوريين لعقود في ظل القبضة الأمنية لنظام الأسد.
وظهر في مقطع مصور المسلحون وهم يطلقون النار على قفل بوابة سجن صيدنايا عندما وصلوا إليه، ويطلقون المزيد من الأعيرة النارية
لفتح الأبواب المغلقة المؤدية إلى الزنازين. وتدفق رجال إلى الممرات والفناء وهم يهتفون ويساعدونهم في فتح المزيد من الزنازين، بحسب "رويترز".
وفي مقطع مصور نشرته وكالة ستيب الإخبارية، ارتمى رجل أشيب الشعر في أحضان قريبين له في عناق ممزوج بالذهول والفرح، وتعانق
الرجال الثلاثة وانخرطوا في البكاء فرحاً قبل أن يجثو أحدهم على ركبتيه، وهو لا يزال ممسكاً بساقي السجين المحرر.
تاريخ سجن صيدنايا
وبالتزامن مع انهيارات قوات النظام السابق كان بيان الفصائل السورية بالسيطرة على سجن صيدنايا مؤشراً على سقوط حكم حزب البعث الذي استمر في سوريا 54 عاماً.
والسجن الواقع على بعد 30 كيلومتراً شمال العاصمة دمشق، أنشئ في العام 1987 خلال حكم الرئيس السابق حافظ الأسد، وتم اعتباره لعقود رمزاً لقمع النظام لمعارضيه، ما دفع البعض إلى وصفه بـ"المسلخ البشري" وفق ما ذكره تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 2017.
وقبل 7 سنوات، وثق تقرير منظمة العفو الدولية إعدام 13 ألف معتقل سياسي في سجن صيدنايا بين عامي 2011 و2015، متهماً نظام الأسد بانتهاج "سياسة الإبادة".
وقال التقرير، الذي استند على شهادات 84 شخصاً، بينهم حراس وسجناء سابقون وقضاة، إنه في كل أسبوع كان ما لا يقل عن 50 شخصاً يؤخذون من الزنازين ويُضربون ثم يشنقون في سرية تامة.
جرائم حرب
ونقل التقرير عن أحد السجناء قوله: "كانوا يعلقون على المشانق مدة تتراوح بين 10 إلى 15 دقيقة." ووصفت منظمة العدل الدولية تلك الممارسات بأنها تُعد "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
حققت المعارضة السورية هدفها بعد قرابة 14 عاماً، مع الانهيار المفاجئ لحكم بشار الأسد، وعقب حرب أهلية حصدت أرواح مئات الآلاف ونزح بسببها نصف السكان تقريباً.
وتقدّر "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" أن أكثر من 30 ألف معتقل إما أُعدموا، أو قضوا نتيجة التعذيب، أو نقص الرعاية الطبية أو الجوع بين عامي 2011 و2018 في سجن صيدنايا.
كما قالت الرابطة، في تقرير أعدته بالشراكة مع وكالة "فرانس برس" ونشر عام 2022، إنه "يُعتقد أن نظام الأسد أعدم ما لا يقل عن 500 معتقل إضافي بين عامي 2018 و2021"، وفقاً لشهادات ناجين وثقتهم الرابطة.
وكشف التقرير عن تفاصيل مروعة تجري داخل أسوار السجن الذي يحيط به الغموض، ومنعت سلطات النظام السابق كافة المنظمات الحقوقية من دخوله.
وأوضح التقرير أن مساحة السجن تقدر بـ1.4 كيلو متر مربع، ويتألف من مبنيين، أحدهما قديم يطلق عليه "السجن الأحمر"، وآخر جديد يطلق عليه "السجن الأبيض"، وهما محميان بثلاثة مستويات من الحراسة، فيما تختلف الجهات المسؤولة عن كل مستوى منهم، سواء الجيش أو الشرطة العسكرية أو الاستخبارات العسكرية.
ولم تكن لوزارة العدل السورية أي سلطة على سجن صيدنايا، إذ يخضع بالكامل لوزارة الدفاع، ولم يسمح لأحد بدخوله أو زيارة أي معتقل دون إذن من الشرطة العسكرية وموافقة شعبة الاستخبارات العسكرية، حسب التحقيق الذي أجرته الرابطة الحقوقية.
وأشار التحقيق إلى أن المعتقلين في سجن صيدنايا كانوا يصنفون إلى فئتين، الأولى هي "الأمنيون"، وتعني الاعتقال على خلفية الرأي أو النشاط السياسي، أو تهم تتعلق بالانتماء لـ"منظمات إرهابية"، وهؤلاء يخضعون إلى تعذيب ممنهج وحرمان من الطعام والرعاية الصحية.
أما الفئة الثانية، فهم الموقوفون من العسكريين على خلفية ارتكاب "جرائم مثل القتل والسرقة والفرار من الخدمة العسكرية" وغيرها، ويتعرض هؤلاء، وفقاً للتحقيق، للتعذيب لكن بصورة غير ممنهجة، ويتمتعون غالباً بزيارات دورية ورعاية طبية.
وتحدّث التقرير عن غرف إعدام جماعي داخل السجن، تجري فيها عمليات الشنق يومين أسبوعياً، فيما تُنقل الجثث وتدفن في مقابر جماعية.
أما جثث المعتقلين المتوفين نتيجة التعذيب أو بسبب انعدام الرعاية الطبية، فإنها تُجمع في السجن وتدفن في غرفة مليئة بالملح لحفظها لمدة لا تتجاوز 48 ساعة، وبعد ذلك تنقل إلى مستشفى تشرين العسكري، حيث تصدر شهادة وفاة لكل جثة، إلى أن تنقل إلى فرع السجون في "الشرطة العسكرية"، وتدفن الجثث بعد ذلك في مناطق متفرقة في الساعات الأولى من الصباح.