كان مهيب الطلة، ثاقب النظرة، لا يلتفت إليك بعنقه، بل يدير جذعه كاملاً لينظر في عينيك مباشرة، ويصغي إليك بإنصات المحلل، فإما أن تربكك عين الناقد لكلامك، وإما أن تستلهم منه البسالة في طرح رأيك، وكنا حديثي عهد بالحياة، جيل نشأ بين التحفظ والطموح، ومختلف التناقضات التي اجتاحت عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وللتو نلتحق بالجامعة. إبراهيم غلوم هو الشخص الأقدر على أن يضعك في مواجهة مع ذاتك، وفكرك، ليقحمك في رحلتك الأولى نحو اكتشاف كينونتك.
في زحام ما تعلمته، باكراً، من أساليب نقدية في مرحلة البكالوريوس، لم يشتتنا إبراهيم غلوم في الطرح النظري للاتجاهات النقدية. غمرنا مباشرة بالنقد الاجتماعي. كان مقرر المسرح تطبيقاً فكرياً وعميقاً ومؤثراً حد السحر لكيف يكون الأدب معبراً عن رؤية الأديب، ومعالجاً لموقفه من مجتمعه. بدت النصوص التي درستها معه ناطقة نابضة تضج بالحياة والألم والطرافة المتسترة خلفها صنوف الغضب والرفض والقمع. وكان إبراهيم غلوم جاداً وحاداً وغاضبا هو الآخر، وهو يشحذ فينا مهارة التماهي مع النص ومعايشته. تعلمت منه للمرة الأولى أن يعيش النص معي بعد الفراغ من قراءته، أن تتحول مكوناته قضايا أتأمل فيها بواعث اختيار الكاتب للفكرة وأسلوب معالجتها. لم تعد اللغة ألفاظاً منمقة، وترفاً يبذخ في استخدامه الأديب، اللغة وسيلة اجتماعية في النص، قد تصير مبتذلة متى ما استدعى السياق ذلك، وقد تعلو وتحلو وتتجلى، وهي في كل ذلك جمالية بالغة، ليس في محسناتها، بل في إحسان الكاتب تسخيرها لإبراز غايات النص.
في إحدى الجلسات الطيبة معه، في مرحلة الماجستير، قال لنا دكتور غلوم: أنا أعرف أن الطلبة يخافون مني، ولا أعرف السبب. ذات مرة اقتحمت طالبة عليّ المكتب وقالت بانفعال، أريد أن تحل مشكلتي؛ أنا أحب محاضراتك وأحرص عليها، لكنني أرتبك بمجرد أن يطل ظلك في الممر المؤدي إلى القاعة، ضحكت كثيراً وتبادلت أطراف الحديث معها، وخرجت راضية وقد تخلصت من خوفها.
كنا نحبه، لأنه نقي السريرة، يحب طلبته، يتبنى الموهوب منهم، ويأخذ بيد من يبحث عن السبيل، وكنا نهابه في الوقت نفسه، لأنه كان ناسكاً في محراب العلم، مخلصاً للحقيقة، باحثاً عنها في مختلف الآراء والاجتهادات دون انحياز مسبق. لم يكن أحد منا يتجرأ دخول المحاضرة دون تحضير، أو أن يسهو ويلهو، فهو يباغتك فجأة ويسألك عن رأيك في موقف الشخصية من الحدث، أو يطلب منك تفسيراً لما آلت إليه الأحداث، وعليك أن تكون مستعداً.
أول ما قرأت له كتاب «القصة القصيرة في الخليج العربي»، وكانت أطروحته للماجستير، لا تملك إلا أن تقف مبهوراً أمام الجلد والمثابرة التي تمكن بها الدكتور غلوم من جمع هذا الكم الغفير من القصص القصيرة من مختلف مصادرها من المجموعات القصصية ومن المحاولات الكتابية على صفحات الجرائد وغيرها، ومن ثم تحليلها وربطها بالسياق الاجتماعي الذي كتبت فيه. كتاب مذهل يمكن قراءته وتصنيفه من ضمن دراسات التحول الاجتماعي التي مر بها مجتمع الخليج العربي في سنوات النهضة الأولى.
ومع تطور كتاباته في مختلف موضوعاتها، كانت مسألتا السياق المحيط بالنص، والثقافة المنتجة له مسألتين حاضرتين بأسلوب إبراهيم غلوم المتعمق القادر على كشف معضلات النص وأزمات الثقافة. وفي مسيرة النقد الاجتماعي والدراسات الثقافية خط الدكتور إبراهيم غلوم لنفسه مساراً خاصاً جعله أحد النقاد المتميزين في الخليج والوطن العربي.
نحن، طلبة المبدع البحريني إبراهيم غلوم، من خريجي جامعة البحرين، نفخر بأننا تدرجنا خطواتنا الأولى في الدراسات النقدية على يديه، ونفخر بأننا فهمنا الأدب واشتباكاته وتشابكاته مع حركة المجتمع والحياة من خلال عدسة إبراهيم غلوم، ونحن ندين له بحكمته التي كان يوزع قبساً منها بيننا.
رحم الله أستاذنا الجليل، العلم والرمز الثقافي، الإنسان كبير القلب ورفيع الخلق إبراهيم عبدالله غلوم، وأسكن روحه الطيبة فسيح جناته.
في زحام ما تعلمته، باكراً، من أساليب نقدية في مرحلة البكالوريوس، لم يشتتنا إبراهيم غلوم في الطرح النظري للاتجاهات النقدية. غمرنا مباشرة بالنقد الاجتماعي. كان مقرر المسرح تطبيقاً فكرياً وعميقاً ومؤثراً حد السحر لكيف يكون الأدب معبراً عن رؤية الأديب، ومعالجاً لموقفه من مجتمعه. بدت النصوص التي درستها معه ناطقة نابضة تضج بالحياة والألم والطرافة المتسترة خلفها صنوف الغضب والرفض والقمع. وكان إبراهيم غلوم جاداً وحاداً وغاضبا هو الآخر، وهو يشحذ فينا مهارة التماهي مع النص ومعايشته. تعلمت منه للمرة الأولى أن يعيش النص معي بعد الفراغ من قراءته، أن تتحول مكوناته قضايا أتأمل فيها بواعث اختيار الكاتب للفكرة وأسلوب معالجتها. لم تعد اللغة ألفاظاً منمقة، وترفاً يبذخ في استخدامه الأديب، اللغة وسيلة اجتماعية في النص، قد تصير مبتذلة متى ما استدعى السياق ذلك، وقد تعلو وتحلو وتتجلى، وهي في كل ذلك جمالية بالغة، ليس في محسناتها، بل في إحسان الكاتب تسخيرها لإبراز غايات النص.
في إحدى الجلسات الطيبة معه، في مرحلة الماجستير، قال لنا دكتور غلوم: أنا أعرف أن الطلبة يخافون مني، ولا أعرف السبب. ذات مرة اقتحمت طالبة عليّ المكتب وقالت بانفعال، أريد أن تحل مشكلتي؛ أنا أحب محاضراتك وأحرص عليها، لكنني أرتبك بمجرد أن يطل ظلك في الممر المؤدي إلى القاعة، ضحكت كثيراً وتبادلت أطراف الحديث معها، وخرجت راضية وقد تخلصت من خوفها.
كنا نحبه، لأنه نقي السريرة، يحب طلبته، يتبنى الموهوب منهم، ويأخذ بيد من يبحث عن السبيل، وكنا نهابه في الوقت نفسه، لأنه كان ناسكاً في محراب العلم، مخلصاً للحقيقة، باحثاً عنها في مختلف الآراء والاجتهادات دون انحياز مسبق. لم يكن أحد منا يتجرأ دخول المحاضرة دون تحضير، أو أن يسهو ويلهو، فهو يباغتك فجأة ويسألك عن رأيك في موقف الشخصية من الحدث، أو يطلب منك تفسيراً لما آلت إليه الأحداث، وعليك أن تكون مستعداً.
أول ما قرأت له كتاب «القصة القصيرة في الخليج العربي»، وكانت أطروحته للماجستير، لا تملك إلا أن تقف مبهوراً أمام الجلد والمثابرة التي تمكن بها الدكتور غلوم من جمع هذا الكم الغفير من القصص القصيرة من مختلف مصادرها من المجموعات القصصية ومن المحاولات الكتابية على صفحات الجرائد وغيرها، ومن ثم تحليلها وربطها بالسياق الاجتماعي الذي كتبت فيه. كتاب مذهل يمكن قراءته وتصنيفه من ضمن دراسات التحول الاجتماعي التي مر بها مجتمع الخليج العربي في سنوات النهضة الأولى.
ومع تطور كتاباته في مختلف موضوعاتها، كانت مسألتا السياق المحيط بالنص، والثقافة المنتجة له مسألتين حاضرتين بأسلوب إبراهيم غلوم المتعمق القادر على كشف معضلات النص وأزمات الثقافة. وفي مسيرة النقد الاجتماعي والدراسات الثقافية خط الدكتور إبراهيم غلوم لنفسه مساراً خاصاً جعله أحد النقاد المتميزين في الخليج والوطن العربي.
نحن، طلبة المبدع البحريني إبراهيم غلوم، من خريجي جامعة البحرين، نفخر بأننا تدرجنا خطواتنا الأولى في الدراسات النقدية على يديه، ونفخر بأننا فهمنا الأدب واشتباكاته وتشابكاته مع حركة المجتمع والحياة من خلال عدسة إبراهيم غلوم، ونحن ندين له بحكمته التي كان يوزع قبساً منها بيننا.
رحم الله أستاذنا الجليل، العلم والرمز الثقافي، الإنسان كبير القلب ورفيع الخلق إبراهيم عبدالله غلوم، وأسكن روحه الطيبة فسيح جناته.