أذكر جيداً خلال فترة دراستي الجامعية، أن ما أحمله داخل القاعة الدراسية لا يتعدى القلم أو مجموعة أقلام، ودفاتر لكتابة المذكرات، وبعض الكتب، وهذا كل شيء، لم تكن هناك أجهزة إلكترونية ولا هواتف نقالة، ولا حتى مفاتيح إلكترونية للسيارات، وما أن ندخل إلى قاعة الدرس حتى نوجه أنظارنا ومسامعنا وتركيزنا إلى الأستاذ، لنميز الأهم في كلامه ونوثقه كتابة، وكأننا كنا في عالم آخر يسوده التأني، حيث مصادر المعلومات محدودة، والحصول على المعلومة يحتاج إلى وقت، حتى وصلنا إلى أيامنا هذه وما زلنا في بيئة الجامعة، لكننا نؤدي دور الأستاذ هذه المرة، إلا أن العالم مختلف تماماً عن العالم الذي عشناه عندما كنا نؤدي دور الطلبة، فطلبتنا الآن يعيشون في عالم تسوده الفورية والسرعة، وبعد تمكن وسائط التواصل الاجتماعي منا جميعاً، لا سيما تلك التي لها مكانة الصدارة، خصوصاً تلك التي تميزت بمحتوى سريع وسطحي في المعلومات، أصبحنا تحت هيمنة ثقافة «المحتوى القصير»، وكل ما حولنا يشجع الاستهلاك السريع والسطحي للمعلومة. فمنصات مثل تيك توك، وإنستغرام، وغيرها مصممة لتقديم هذا النوع من المحتوى وهي التي لها الصدارة في الاستخدام.

هذا الواقع أدى إلى تغييرات جذرية في نوع الطلبة، فسمة التركيز التي كان يتمتع بها الطلبة من جيلنا لم تعد موجودة، ففي السابق كان التربويون يوصون بوجوب منح الطلبة استراحة بعد 45 دقيقة من المحاضرة لأن تركيزهم ينتهي تقريباً في هذه الفترة، إلا أن التغيير الحاصل الآن كبير جداً، فتركيز الطلبة يفقد بعد ثلاث دقائق تقريباً! ويبدأ الطالب بلمس هاتفه محاولاً تفقد حساباته على وسائط التواصل الاجتماعي، أما إذا منع الأستاذ طلبته من العبث في هواتفهم خلال محاضرته، نجد أن الطلبة بعد ثلاث دقائق يتشتتون وما هي إلا دقائق حتى يختلق عدد منهم الأعذار ليخرج لحظات ويعود من جديد، حقيقة الأمر أننا نتعامل مع جيل لا يملك القدرة على الانغماس في المحتوى الطويل والتأملي، وهذا أمر طبيعي لتأثير وسائط التواصل الاجتماعي على الجميع.

لمواجهة هذا التحدي في حقل التعليم، لا بد أن نقدم حلولاً تستند إلى الواقع، أما الإصرار على إبقاء المنهج القديم في التعليم، ومحاولة تغيير الواقع بطرح حلول مثل ترشيد استخدام وسائط التواصل الاجتماعي، فهو أمر لا يجدي نفعاً، باختصار علينا فهم الواقع لنعرف كيفية التعامل معه، وواقعنا يؤكد أن طلبتنا لديهم صعوبة في الاحتفاظ بالانتباه والتركيز داخل قاعة الدرس، لا سيما أن محاضراتنا بين ساعة ونصف وساعتين، في المقابل الأساتذة يواجهون تحدياً، في التوفيق بين طريقة التعليم التقليدية التي يفضلونها والتي تعلموا بها، وبين توقعات الطلبة المعاصرين الذي يفضلون المعلومة السريعة، والحل يكمن في التكيف مع توجهات الطلبة، وعدم مقاومة التكنولوجيا الحديثة، وإنما استثمارها بالشكل الأمثل وتحقيق التوازن في المحافظة على معايير التعليم الأكاديمي وتلبية احتياجات طلبة اليوم، فالابتكار في التعلم أمر حتمي لا بد منه، ولا بد من دمج التكنولوجيا مع طرق التعليم واستخدام الواقع الافتراضي، وتقديم محتوى يحفز الطلبة على التفاعل والمشاركة، كما لا بد للفصول الدراسية أن تكون قائمة على المشاريع، والأهم أن يكون المحتوى نفسه سريعاً لكن يتسم بالعمق، ويقدم بطريقة تفاعلية تجبر الطلبة على التركيز، كما لا بد من إعادة النظر في طريقة تقييمات الطلبة فالاختبارات الطويلة والمكتوبة لم تعد مناسبة لجيل اليوم، ولا بد من اختبارات تعتمد على المشاريع المناسبة لنوع المقرر.

يمكن تحقيق تعليم جذاب ومثرٍ، من خلال التكيف مع البيئة التكنولوجية سريعة الإيقاع، التي نعيشها اليوم، وكل ما نحتاج إليه هو إعادة التفكير في الطرق والوسائل التي يمكن من خلالها للتعليم أن يكون مؤثراً.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية