حديث ذو مهابة أن تقتحم محراب نيتشه، فضلاً عن أن تخوض في قضية شائكة تمس الحقيقة فيما كتبه نيتشه وقاله وآمن به. نيتشه ليس كأي أحد. ليس كاتباً يمكن التعرف عليه من خلال كتاباته، وكفى، كما تقول النظرية البنيوية. ليس فيلسوفاً يمكنك الاهتداء لأدواته ومقاييسه ومقارباته. نيتشه حالة إنسانية قائمة بذاتها. نيتشه حياة كاملة يتعذر فيها فصل الورق عن السيرة الذاتية التي شكلت الجانب الأكبر من فكره وشخصيته.
ومازال الكثير من مفاتيح أسرار حياته عند أخته إليزابيث. حيث لعبت دوراً خطيراً في حياة نيتشه قد يصل إلى حد تقمص كتاباته، ورسم اتجاه بعضها. ولد فريدريك نيتشه عام 1944م، وولدت إليزابيث بعده بعامين.
وبعيداً عن السيرة الكاملة لكليهما، فإنهما كانا شخصين مختلفين تماماً. كان نيتشه كاتباً ومفكراً وفيلسوفاً متحرراً من أي قيد اجتماعي وفكري. سعيه دائماً للبحث عن الحقيقة التي أقر أن أحداً لن يبلغها، وأن اليقين وهم.
وكانت إليزابيث مؤدلجة ومنحازة وعضوة شرسة في الحزب الألماني النازي.
وفي علاقتها بأخيها نيتشه اشتبكت معه في ثلاث محطات مفصلية في حياته. الأولى حين أحب ليو – أندرياس سالومي، التي كانت مثقفة ومهتمة بكتاباته. وأراد الزواج بها. كانت إليزابيث قلقة من تعلق نيتشه بسالومي ورافضة لتأثيرها الكبير عليه. فدخلت في مشاحنات عديدة معها ساهمت في إنهاء علاقتهما غير المنسجمة أصلاً.
المحطة الثانية هي تدخلها في تحريف مسودة كتاب نيتشه «إرادة القوة» ونشره مدسوساً بأفكارها بعد وفاة أخيها. حيث تشير العديد من الدراسات إلى أنها أعادت صياغة الكتاب ليصبح ذا صبغة نازية معادية للسامية ومؤيدة لسياسات الزعيم الألماني النازي هتلر. وقد احتاج الأمر فترة ليست قصيرة، وجهوداً دقيقة من باحثين مهتمين بفلسفة نيتشه لإثبات تحريف إليزابيث لكتاباته.
ولكن مازالت شبهة النازية ومعاداة السامية تشوه سيرة نيتشه. المحطة الثالثة حين أوصى نيتشه إليزابث، عند وفاته، ألا يصلي عليه قسيس وألا تقام له جنازة دينية. ولكنها خالفت وصيته وأقامت جنازة دينية كبيرة له.
المؤسف في سيرة نيتشه الفيلسوف ذو الشخصية القوية المستقلة، أن المرض العقلي لم يتمكن من تقويض أفكاره أو والتحكم بسلوكه، ولكن أخته المحدودة ذات السلوك الذي وصفه كثير من النقاد بأنه «أحمق» قد تمكنت من التدخل في مسار حياته وتوجيهها توجيها سلبيا، فاقم من الشكوك في رصانة ما كتبه نيتشه مرتين. المرة الأولى نتيجة تفاقم مرضه العقلي، والمرة الثانية بتدخلات إليزابيث في كتاباته التي تولت هي نشرها بعد وفاته مما شكل تشويهاً لسيرته وتوجهاته.
فهل يمكن وصف ما فعلته إليزابيث بالخيانة الأدبية والإنسانية؟