أغلبنا يخشى من الوحدة. حتى وإن كان محاطاً بجيوش من الأهل والأصدقاء، فتقلبات الدهر المروعة تفتح خيالاتنا، أحياناً، على مغبطة السقوط في مستقبل مجهول لا يعلمه إلا الله. ومع هذا جميعنا يحتاج إلى بعض وقت يخلو فيه مع نفسه. ويستمتع بالوحدة. صخب الحياة، العمل، الشارع، الضغوطات، متطلبات العيش، وطلبات الآخرين، تكبس على كل خلية في وعيك وتجعلك تهرب وتلتمس فراغاً من كل شيء كي تعود إلى صفو تركيزك واستقرارك.
مرّ في تجاربي أشخاص اختاروا الوحدة لأسباب يمتلكون تفسيرها. وعجزت عن فهمها. غير أنهم يؤكدون دائماً أنهم سعداء، وأنهم أمنوا أنفسهم حتى ضد.. موت الفجأة، حيث لا أحد معهم.
وفي ملاحظتي، وتلصصي على سلوك البشر العام، صرت معتادة على الذين يجلسون في بعض المقاهي مع أجهزتهم الإلكترونية لساعات طويلة، وحدهم. صار هذا المشهد جزءاً من نظام الحياة العصرية. قهوة إفرنجية بأسمائها الطويلة التي تتضمن مكوناتها، وجهاز ذكي «بدل جريدة نزار قباني» وسيجارة أو شيشة إلكترونية. لكنني مازلت أتوقف عند الذين يرتادون المطاعم ويتناولون وجباتهم الرئيسة، وحدهم. أظل أرصدهم أنتظر أن يأتي صديق أو قريب يتقاسم معهم الطاولة والوجبة والوقت. لكنهم يغادرون المطعم وحدهم وبكل تلقائية.
أسأل صديقاتي: هل تستطيعين تناول وجبتك الرئيسة في مطعم، وحدك؟ تتفاوت الإجابات والتبريرات ولا تقطع إحداهن أنه سلوك عادي يمكنها أن تمارسه دون أن تكون مضطرة.
هذا السلوك يرتكز على تناقض عجيب. فأنت تتناول وجبتك وحدك على طاولتك. ولكنك لست وحيداً في المطعم. فإن كنت ترغب في الهدوء والسكينة لماذا لا تشتري الطعام وتأكل في المنزل، أو في غرفتك وحدك؟ كيف تستمتع أن تكون وحيداً وأنت محاط بالبشر.
أعرف أنكم بدأتم تفكرون بأني فضولية، وأن تلك شؤون البشر، سيّرها الله كيف شاء.
سأحكي لكم موقفاً هو الأشد غرابة في شأن الله، هذا، الذي سيّر عليه بعض البشر. ذات مساء صيفي دخلت مطعماً راقياً في أحد أحياء المنامة. انتظرت صديقتي التي تاهت لمدة نصف ساعة بسبب تحويل مسارات الشوارع. كانت تجلس، في الطاولة التي تقابلني، فتاة لطيفة في أوائل العشرينيات من عمرها تتناول، وحدها، ما يبدو أنه عشاء باكر، أو غداء متأخر.
وكعادتي أخذت أفكر لماذا تتناول طعامها وحدها. لكن المفاجأة التي كسرت أفق أسئلتي التقليدية أن موظفي المطعم تحلقوا حول الفتاة العشرينية حاملين كعكة عيد ميلاد، وأخذوا يغنون لها ويتمايلون وهي تنظر إليهم في سعادة. إحدى النادلات حملت هاتف الفتاة وأخذت تصور الاحتفال.
الفتاة تقيم لنفسها حفل عيد ميلاد لوحدها!! وتطفئ الشمعة وتقطع الكعكة أمام صخب موظفي المطعم. جلست الفتاة تأكل قطعة من كعكة عيد ميلادها، وكوب قهوة. مكثت قليلاً تستهلك الوقت والذاكرة، ثم طلبت من النادل أن يضع الكعكة في علبة ويحملها معها إلى السيارة.
غادرت الفتاة أمامي مع النادل الذي يحمل علبة الكعك وبعض أكياس أنيقة يبدو أن فيها هدايا. ولوهلة وددت الالتفات إليها ومشاركتها اللحظة بتهنئتها بعيد ميلادها. لكنني خشيت أن تنزعج من تطفلي.
جلست وحدي بضع دقائق في حيرة. وصلت صديقتي، ولم أرغب في سرد الحكاية لها. بقيت أتأمل في قصة فتاة عشرينية، جميلة، تحتفل بعيد ميلادها مع كوكبة من نادلي المطعم.. وحدها.