عند جرد خسائر الحرب الدائرة في غزة التي دخلت شهرها السابع منذ أيام، ومر عليها العيد متوشحاً بسواد الحداد، ومحزوناً على فقد القلوب، ومفجوعاً لهول ما حل على رأس أهلها.. فالمصائب اشتدت، والضمائر زلزلت، والأقلام جفت، والصحف طويت أمام الجرائم التي زجت بالبشر وساوت به مع الشجر والحجر، لتشتد وتضيق حلقات اليأس على دروب الفرج.. وإن رحبت أرض الله بسعتها.
فلا نور يُرى في نهاية النفق، هذا إذا كان للنفق نهاية أصلاً! ولا صوت يُسمع إلا صوت غربان الموت وهم يجردون حسابات الدمار .. وما أبشعه من جرد لا يجري إلا على يد المطففين المتكسبين من خسارة وإذلال الآخرين، وهم ذاتهم المتشبثون بطقوس تقديس هذه الحرب القبيحة التي يدفع فاتورة ثمنها الباهظ من لا حول لهم ولا قوة.
يقال في المأثور بأن كل الخسائر تهون إلا خسارة العمر، ولكن واقع الأحداث وسخرياته يشيران إلى أنها أسهل الخسائر وأبخسها قيمة بمقاييس من يدير تلك المعارك، وهم في الغالب أبعد ما يكونوا عن ميدانها .. والأقرب لأطماعهم التي لا ترى إلا مجداً زائفاً ومتوهماً للنصر، ضاربين بعرض الحائط صمود المؤمنين بعودة الحق لأصحابه والصابرين على القضاء والابتلاء حتى يُحدث الله أمره.
ومما يزيد الضغث على الإبالة، في مواجهة هذا الصراع العتيق، هو اتساع دائرة الجرائم التي تمارس ضد كل ما له علاقة بالوجود والذاكرة الفلسطينية. ففي تقرير أولي أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية أوائل العام الجاري، يتبين بأن قطاع غزة، وإلى جانب ما خسره من أرواح وبنية تحتية ومؤسسات طبية وتعليمية .. إلخ، قد خسر كذلك ما يقارب عشرات المؤسسات الثقافية المختصة بالفنون المعاصرة ودور النشر والطباعة والحِرف، إلى جانب المسارح وبيوت الصحافة ومعاهد الموسيقى والمتاحف والمكتبات والنصب التذكارية والمقتنيات الأثرية.
كما لم تَنجُ العديد من الآثار التي تعود أزمنتها لحقب ماضية ولحضارات إنسانية ازدهرت على أراضي فلسطين التاريخية، ومن بينها المساجد والكنائس القديمة، فجميعها إما تقف كالأطلال أو سويت بالأرض وجُرِفت معها مادة علمية وثقافية وفكرية عريقة، لا تقدر بثمن، لتُطمس معها ذاكرة وكنوز معرفية ذنبها الوحيد بأنها فلسطينية الهوية والهوى والنشأة.
إذ تتواصل الحملة المسعورة لتثبيت سردية تاريخية محبوكة بدقة بالغة تتعمد إخفاء، بل مسح الرمزية الفلسطينية من على واجهات العالم، والقضاء على الرمق الأخير لعدالة "القضية" وعلى مشروعية وشرعية حقوقها، لأن قدر فلسطين، وكما زعموا وكان لهم ما أرادوا، هو أن تكون "التعويض" عن تاريخ طويل ومروع من العداء والظلم والتمييز ضد اليهود في الغرب الأوروبي .. وما أقساه من تعويض!
وشتان بين بشاعة ما يحصل تجاه الشعب الفلسطيني وهويته الإنسانية، التي هي جل ما يملك في ظل سياسات الإبادة البشرية والإلغاء الثقافي الممنهج، وبين الاستنفار الذي يحصل عند التلويح بورقة أو بفكرة أو حتى بمشاعر فيها شبهة "معاداة السامية" ولكل ما له علاقة بإسرائيل ووجودها، ويا ويل من يُتهم بعدائه للسامية في هذا الزمن!
والويل ثم الويل لمن يشهد من أهل السامية نفسها ضد ما يسمع ويرى، كما حصل مؤخراً مع المخرج اليهودي "جوناثان غليزر"، بعد أن عبّر عن رأيه، بكل صراحة، حول مجرى الوقائع والأحداث، ومن قلب هوليود، في كلمة مبهرة من على منصة حفل الأوسكار الأخير، غير آبهاً بالنيران المضادة التي ستأتيه من أهم لوبيات الضغط الناعمة، وأشرس معاقل المدافعين عن السامية والصهيونية، على الغرب الأمريكي.
الجميل في الموضوع، هو التفاعل الإيجابي مع موقف المخرج الشهير، فبحسب خبر نُشر في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أصدر أكثر من 150 شخصية يهودية فاعلة في المشهد الفني، بياناً مشتركاً أكدوا فيه على وقوفهم إلى جانب تصريحات السيد غليزر الذي رفض وأدان كل ما يحصل في غزة.
وجاء في بيان، من أسمتهم الصحيفة بـ "المبدعين اليهود"، نصاً في غاية الأهمية، بالنظر إلى مصدره النابع من قلب الوعي اليهودي المعروف بتشدد مواقفه وعدم سماحه لمن يخرج عن الرواية المألوفة والمفروضة على شعب الله المختار، وتقول فيه المجموعة الثائرة: "نحن يهود فخورون ندين استخدام الهوية اليهودية وذكرى الهولوكوست كسلاح لتبرير ما يصفه العديد من الخبراء في القانون الدولي، من بينهم باحثون كبار في الهولوكوست، بأنه إبادة جماعية في طور الإعداد"، ونرفض "الاختيار الزائف بين السلامة اليهودية والحرية الفلسطينية".
ولم تكتف الرسالة "الاحتجاجية"، بالتنديد بما يحصل وتبعات ما يحصل على السمعة اليهودية، بل حرص كاتبوها على إبداء تخوفهم من اتهامهم بمعاداة السامية، وهم أبنائها "الأعزاء"، مستنكرين بدورهم تلك الاتهامات المقصود بها تكميم أفواههم لأنهم - فقط - أبدوا أسفهم ورفضهم العلني لما يحصل اليوم من إبادة جماعية وجرائم حرب لا تخدم أي من الطرفين المراد منهم التعايش وحل جذور العداء الطويل.
ونسأل هنا، على وقع هذه المواقف المتفرقة هنا وهناك، ومن على جبهات غربية لم نعتاد سماع آرائها الشجاعة في الشأن الفلسطيني عبر تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة، هل من الممكن اعتبار تلك الجرأة مؤشر صحوة جديدة، أو وخزة في خاصرة الضمير الإنساني ليستعيد بعض من رجاحة فكره فيعيد النظر في المؤجل من الاستحقاقات التي طال أمدها، وزاد ثمن تضحياتها، وطفح كيلها، لتكون الغلبة هذه المرة لدعاة وحماة السلام؟
.. قد تكون الخاطرة حالمة بعض الشيء، ولكن لنأمل ذلك، لعل الصبح بقريب.
*عضو مؤسس لدارة الأنصاري للفكر والثقافة
{{ article.visit_count }}
فلا نور يُرى في نهاية النفق، هذا إذا كان للنفق نهاية أصلاً! ولا صوت يُسمع إلا صوت غربان الموت وهم يجردون حسابات الدمار .. وما أبشعه من جرد لا يجري إلا على يد المطففين المتكسبين من خسارة وإذلال الآخرين، وهم ذاتهم المتشبثون بطقوس تقديس هذه الحرب القبيحة التي يدفع فاتورة ثمنها الباهظ من لا حول لهم ولا قوة.
يقال في المأثور بأن كل الخسائر تهون إلا خسارة العمر، ولكن واقع الأحداث وسخرياته يشيران إلى أنها أسهل الخسائر وأبخسها قيمة بمقاييس من يدير تلك المعارك، وهم في الغالب أبعد ما يكونوا عن ميدانها .. والأقرب لأطماعهم التي لا ترى إلا مجداً زائفاً ومتوهماً للنصر، ضاربين بعرض الحائط صمود المؤمنين بعودة الحق لأصحابه والصابرين على القضاء والابتلاء حتى يُحدث الله أمره.
ومما يزيد الضغث على الإبالة، في مواجهة هذا الصراع العتيق، هو اتساع دائرة الجرائم التي تمارس ضد كل ما له علاقة بالوجود والذاكرة الفلسطينية. ففي تقرير أولي أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية أوائل العام الجاري، يتبين بأن قطاع غزة، وإلى جانب ما خسره من أرواح وبنية تحتية ومؤسسات طبية وتعليمية .. إلخ، قد خسر كذلك ما يقارب عشرات المؤسسات الثقافية المختصة بالفنون المعاصرة ودور النشر والطباعة والحِرف، إلى جانب المسارح وبيوت الصحافة ومعاهد الموسيقى والمتاحف والمكتبات والنصب التذكارية والمقتنيات الأثرية.
كما لم تَنجُ العديد من الآثار التي تعود أزمنتها لحقب ماضية ولحضارات إنسانية ازدهرت على أراضي فلسطين التاريخية، ومن بينها المساجد والكنائس القديمة، فجميعها إما تقف كالأطلال أو سويت بالأرض وجُرِفت معها مادة علمية وثقافية وفكرية عريقة، لا تقدر بثمن، لتُطمس معها ذاكرة وكنوز معرفية ذنبها الوحيد بأنها فلسطينية الهوية والهوى والنشأة.
إذ تتواصل الحملة المسعورة لتثبيت سردية تاريخية محبوكة بدقة بالغة تتعمد إخفاء، بل مسح الرمزية الفلسطينية من على واجهات العالم، والقضاء على الرمق الأخير لعدالة "القضية" وعلى مشروعية وشرعية حقوقها، لأن قدر فلسطين، وكما زعموا وكان لهم ما أرادوا، هو أن تكون "التعويض" عن تاريخ طويل ومروع من العداء والظلم والتمييز ضد اليهود في الغرب الأوروبي .. وما أقساه من تعويض!
وشتان بين بشاعة ما يحصل تجاه الشعب الفلسطيني وهويته الإنسانية، التي هي جل ما يملك في ظل سياسات الإبادة البشرية والإلغاء الثقافي الممنهج، وبين الاستنفار الذي يحصل عند التلويح بورقة أو بفكرة أو حتى بمشاعر فيها شبهة "معاداة السامية" ولكل ما له علاقة بإسرائيل ووجودها، ويا ويل من يُتهم بعدائه للسامية في هذا الزمن!
والويل ثم الويل لمن يشهد من أهل السامية نفسها ضد ما يسمع ويرى، كما حصل مؤخراً مع المخرج اليهودي "جوناثان غليزر"، بعد أن عبّر عن رأيه، بكل صراحة، حول مجرى الوقائع والأحداث، ومن قلب هوليود، في كلمة مبهرة من على منصة حفل الأوسكار الأخير، غير آبهاً بالنيران المضادة التي ستأتيه من أهم لوبيات الضغط الناعمة، وأشرس معاقل المدافعين عن السامية والصهيونية، على الغرب الأمريكي.
الجميل في الموضوع، هو التفاعل الإيجابي مع موقف المخرج الشهير، فبحسب خبر نُشر في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أصدر أكثر من 150 شخصية يهودية فاعلة في المشهد الفني، بياناً مشتركاً أكدوا فيه على وقوفهم إلى جانب تصريحات السيد غليزر الذي رفض وأدان كل ما يحصل في غزة.
وجاء في بيان، من أسمتهم الصحيفة بـ "المبدعين اليهود"، نصاً في غاية الأهمية، بالنظر إلى مصدره النابع من قلب الوعي اليهودي المعروف بتشدد مواقفه وعدم سماحه لمن يخرج عن الرواية المألوفة والمفروضة على شعب الله المختار، وتقول فيه المجموعة الثائرة: "نحن يهود فخورون ندين استخدام الهوية اليهودية وذكرى الهولوكوست كسلاح لتبرير ما يصفه العديد من الخبراء في القانون الدولي، من بينهم باحثون كبار في الهولوكوست، بأنه إبادة جماعية في طور الإعداد"، ونرفض "الاختيار الزائف بين السلامة اليهودية والحرية الفلسطينية".
ولم تكتف الرسالة "الاحتجاجية"، بالتنديد بما يحصل وتبعات ما يحصل على السمعة اليهودية، بل حرص كاتبوها على إبداء تخوفهم من اتهامهم بمعاداة السامية، وهم أبنائها "الأعزاء"، مستنكرين بدورهم تلك الاتهامات المقصود بها تكميم أفواههم لأنهم - فقط - أبدوا أسفهم ورفضهم العلني لما يحصل اليوم من إبادة جماعية وجرائم حرب لا تخدم أي من الطرفين المراد منهم التعايش وحل جذور العداء الطويل.
ونسأل هنا، على وقع هذه المواقف المتفرقة هنا وهناك، ومن على جبهات غربية لم نعتاد سماع آرائها الشجاعة في الشأن الفلسطيني عبر تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة، هل من الممكن اعتبار تلك الجرأة مؤشر صحوة جديدة، أو وخزة في خاصرة الضمير الإنساني ليستعيد بعض من رجاحة فكره فيعيد النظر في المؤجل من الاستحقاقات التي طال أمدها، وزاد ثمن تضحياتها، وطفح كيلها، لتكون الغلبة هذه المرة لدعاة وحماة السلام؟
.. قد تكون الخاطرة حالمة بعض الشيء، ولكن لنأمل ذلك، لعل الصبح بقريب.
*عضو مؤسس لدارة الأنصاري للفكر والثقافة