شاهدنا جميعاً رد الفعل الهستيري لمندوب إسرائيل وهو يقوم بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة، ويصرخ في وجه العالم بـ«عار عليكم!» خلال انعقاد الجمعية العامة للمنظمة الأممية، وذلك قبل أيام قليلة، في مسرحية هزلية، يتباكى فيها الجاني وتُجرّم الضحية، والسبب التصويت بالأغلبية على مشروع القرار الذي يوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في المسعى الفلسطيني لنيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
وتأتي هذه المبادرة في سياق تنسيق عربي مشترك لإقناع الأسرة الدولية بقبول فلسطين عضواً فيها، بعد تاريخ طويل من المطالبات العربية لكسب معركة الوجود الفلسطيني وقيام دولته الوطنية، والذي يبدأ في كل مرة بتحشيد المواقف الدولية من على منصات الأمم المتحدة.
ولم تخلُ كل جولة من تلك الجولات من التذرع والتحجج، للتهرّب من حسم الموقف لصالح الاعتراف بالعضوية الفلسطينية الكاملة، حيث تبرر الأطراف الرافضة، بأن هذا المطلب يجب ألا يُبحث في قاعات الأمم المتحدة، وإنما على طاولة المفاوضات المباشرة بين طرفي الصراع ليرى حل الدولتين النور أولاً، قبل البت في أي مطلب آخر، وهي نتيجة على ما يبدو، وبحسب الأفق المنظور، تتطلب نوعاً من أنواع المعجزات الإلهية!
ونزولاً إلى تفصيلات مشروع القرار الذي أثار غضب الجانب الإسرائيلي وحفيظته، فإن أبرز ما ستحظى به فلسطين عند الاعتراف الكامل بها، هو حق التسجيل ضمن قائمة المتحدثين في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحق المشاركة في مؤتمراتها واجتماعاتها، وحق الإدلاء بالبيانات أو التصويت باسم مجموعة ما، ولكن تبقى دولة فلسطين، بصفتها دولة مراقبة، مجردة من حق التصويت في الجمعية العامة، ومن التقدم لأية ترشيحات في أجهزة ومنظمات الأمم المتحدة.
تصوروا، هذا كل ما في الأمر بالنسبة إلى مشروع القرار العربي الذي صنفته الأصوات المعارضة له بأنه اعتراف ضمني بالدولة الفلسطينية المستقلة، وفرض لسياسة الأمر الواقع بتقويض مسار المفاوضات والتفاهمات المباشرة، لتلوّح إسرائيل مجدداً بورقة الإبادة الجماعية ومعاداة الصهيونية.
ومع استمرار هذا الجدل العقيم الذي يقتات على انحراف ميزان العدالة الإنسانية، نستمر في اجترار معاناة قاسية عاصرتها قبلنا أجيال متتالية، رأت بأم عينها «الانحياز الصارخ» لقيام الدولة الإسرائيلية، وبتخطيط منظم لهجرة ممنهجة بدأت منذ القرن التاسع عشر على يد «هرتزل»، الأب الروحي للحركة الصهيونية.
وأقل ما يمكن قوله في وصف هذه الهرطقة المبتذلة أنها المذبح الذي تنتهي عنده كل المحاولات المخلصة للتمسك بخيوط السلام، وللوصول إلى إخراج «يحفظ ماء الوجه»، تتعايش من خلاله الدولتان، وفق ما يسمى باحترام قرارات الشرعية الدولية والالتزام بالقانون الدولي.
ويبدو أن سياسة الصراخ المستعر ستؤتي ثمارها بحجب أي حق مرجو للوجود الفلسطيني، كحال هذا القرار، الذي حُمّلَ أكثر مما يحتمل، بأنه سيؤدي إلى التأثير على مجرى الأحداث التي تسيطر عليها موازين القوة الميدانية أو إلى إلغاء سياسة الأمر الواقع، ونقصد هنا، واقع الاحتلال، وواقع العدوان الغاشم، وواقع الإبادة الجماعية، وواقع التهجير القسري والفصل العنصري، وواقع الضرب «عرض الحائط» بكل الاتفاقيات التي أُبرمت من أجل خارطة أكثر عدالة، كي تسترجع شعوب المنطقة الحد الأدنى من الثقة المتبادلة والرغبة في العيش المشترك واحترام حق الجيرة، وخصوصاً الدول المحيطة ببؤرة النزاع، التي تحترق أصابعها يومياً بالجمر، وهي تتعامل مع قضية تمس الوجود والمصير.
وعلى أصداء هذه الجولة الجديدة الهادفة إلى رد الاعتبار للدولة الفلسطينية من زاوية الحصول على امتيازات إضافية تفعّل دورها الدولي، وإن تخللتها بعض المواقف المستهجنة، فإنه يبدو لنا أن هناك ملامح جديدة بدأت ترتسم لحراك إيجابي يخرج عن المألوف الذي اعتاده المجتمع الدولي تجاه أحقية فلسطين في الوجود والشرعية، تقوده المجموعة العربية، وتبشر به قمة البحرين «إحياءً للتضامن العربي من أجل السلام الدائم».
إذن، وبعيداً عما شاب المشهد العام من تراشق بالاتهامات وتنديد بالمواقف وتمزيق للمواثيق، ففي الأفق لاعبون جدد على صعيد التحالفات والضغوط الدبلوماسية لصالح الحق الفلسطيني، بما يستوجب رفع قدرة التعامل مع الوقائع المتشابكة التي خلقها العامل الدولي الجديد المتأثر بالمآسي الإنسانية نتيجة للحرب الوحشية في قطاع غزة.
ولن يتم ذلك إلا بتكتيكات مضادة تعتمد سياسة «الحياد الإيجابي» لتقوية التحالف الداعم للقضايا العربية العادلة في مواجهة «الإفراط في الانحياز» المؤدي إلى المزيد من الانقسام الدولي وعجز الإرادة الجماعية عن حماية نظامنا الإنساني المتطلع للسلم والأمن والتنمية.
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة
وتأتي هذه المبادرة في سياق تنسيق عربي مشترك لإقناع الأسرة الدولية بقبول فلسطين عضواً فيها، بعد تاريخ طويل من المطالبات العربية لكسب معركة الوجود الفلسطيني وقيام دولته الوطنية، والذي يبدأ في كل مرة بتحشيد المواقف الدولية من على منصات الأمم المتحدة.
ولم تخلُ كل جولة من تلك الجولات من التذرع والتحجج، للتهرّب من حسم الموقف لصالح الاعتراف بالعضوية الفلسطينية الكاملة، حيث تبرر الأطراف الرافضة، بأن هذا المطلب يجب ألا يُبحث في قاعات الأمم المتحدة، وإنما على طاولة المفاوضات المباشرة بين طرفي الصراع ليرى حل الدولتين النور أولاً، قبل البت في أي مطلب آخر، وهي نتيجة على ما يبدو، وبحسب الأفق المنظور، تتطلب نوعاً من أنواع المعجزات الإلهية!
ونزولاً إلى تفصيلات مشروع القرار الذي أثار غضب الجانب الإسرائيلي وحفيظته، فإن أبرز ما ستحظى به فلسطين عند الاعتراف الكامل بها، هو حق التسجيل ضمن قائمة المتحدثين في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحق المشاركة في مؤتمراتها واجتماعاتها، وحق الإدلاء بالبيانات أو التصويت باسم مجموعة ما، ولكن تبقى دولة فلسطين، بصفتها دولة مراقبة، مجردة من حق التصويت في الجمعية العامة، ومن التقدم لأية ترشيحات في أجهزة ومنظمات الأمم المتحدة.
تصوروا، هذا كل ما في الأمر بالنسبة إلى مشروع القرار العربي الذي صنفته الأصوات المعارضة له بأنه اعتراف ضمني بالدولة الفلسطينية المستقلة، وفرض لسياسة الأمر الواقع بتقويض مسار المفاوضات والتفاهمات المباشرة، لتلوّح إسرائيل مجدداً بورقة الإبادة الجماعية ومعاداة الصهيونية.
ومع استمرار هذا الجدل العقيم الذي يقتات على انحراف ميزان العدالة الإنسانية، نستمر في اجترار معاناة قاسية عاصرتها قبلنا أجيال متتالية، رأت بأم عينها «الانحياز الصارخ» لقيام الدولة الإسرائيلية، وبتخطيط منظم لهجرة ممنهجة بدأت منذ القرن التاسع عشر على يد «هرتزل»، الأب الروحي للحركة الصهيونية.
وأقل ما يمكن قوله في وصف هذه الهرطقة المبتذلة أنها المذبح الذي تنتهي عنده كل المحاولات المخلصة للتمسك بخيوط السلام، وللوصول إلى إخراج «يحفظ ماء الوجه»، تتعايش من خلاله الدولتان، وفق ما يسمى باحترام قرارات الشرعية الدولية والالتزام بالقانون الدولي.
ويبدو أن سياسة الصراخ المستعر ستؤتي ثمارها بحجب أي حق مرجو للوجود الفلسطيني، كحال هذا القرار، الذي حُمّلَ أكثر مما يحتمل، بأنه سيؤدي إلى التأثير على مجرى الأحداث التي تسيطر عليها موازين القوة الميدانية أو إلى إلغاء سياسة الأمر الواقع، ونقصد هنا، واقع الاحتلال، وواقع العدوان الغاشم، وواقع الإبادة الجماعية، وواقع التهجير القسري والفصل العنصري، وواقع الضرب «عرض الحائط» بكل الاتفاقيات التي أُبرمت من أجل خارطة أكثر عدالة، كي تسترجع شعوب المنطقة الحد الأدنى من الثقة المتبادلة والرغبة في العيش المشترك واحترام حق الجيرة، وخصوصاً الدول المحيطة ببؤرة النزاع، التي تحترق أصابعها يومياً بالجمر، وهي تتعامل مع قضية تمس الوجود والمصير.
وعلى أصداء هذه الجولة الجديدة الهادفة إلى رد الاعتبار للدولة الفلسطينية من زاوية الحصول على امتيازات إضافية تفعّل دورها الدولي، وإن تخللتها بعض المواقف المستهجنة، فإنه يبدو لنا أن هناك ملامح جديدة بدأت ترتسم لحراك إيجابي يخرج عن المألوف الذي اعتاده المجتمع الدولي تجاه أحقية فلسطين في الوجود والشرعية، تقوده المجموعة العربية، وتبشر به قمة البحرين «إحياءً للتضامن العربي من أجل السلام الدائم».
إذن، وبعيداً عما شاب المشهد العام من تراشق بالاتهامات وتنديد بالمواقف وتمزيق للمواثيق، ففي الأفق لاعبون جدد على صعيد التحالفات والضغوط الدبلوماسية لصالح الحق الفلسطيني، بما يستوجب رفع قدرة التعامل مع الوقائع المتشابكة التي خلقها العامل الدولي الجديد المتأثر بالمآسي الإنسانية نتيجة للحرب الوحشية في قطاع غزة.
ولن يتم ذلك إلا بتكتيكات مضادة تعتمد سياسة «الحياد الإيجابي» لتقوية التحالف الداعم للقضايا العربية العادلة في مواجهة «الإفراط في الانحياز» المؤدي إلى المزيد من الانقسام الدولي وعجز الإرادة الجماعية عن حماية نظامنا الإنساني المتطلع للسلم والأمن والتنمية.
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة