كنت على وشك أن أنهي مكالمتي الهاتفية مع إحدى الصديقات لتهنئتها بمناسبة تخرج ابنها من المدرسة، وإذ هي تباغتني بأحد أسئلتها المعتادة التي تأخذنا، في كل مرة، إلى خانة الجدل البيزنطي! ولتسأل بنبرة حادة: «اللحين إنتو شتقصدون بالسياحة التعليمية؟».
فأجبت بسرعة: «والله وبالله ما نقصد شي!».
لكنها تجاهلت محاولة تهربي منها، وقالت بجدية لمنعي من التهريج: بين فترة وأخرى تُطرح قضية «السياحة التعليمية»، وكأننا اكتشفنا مجالاً استثنائياً سينهض بالتعليم أو سيجعل من السياحة مصدراً وفيراً للدخل.
وواصلت، وكأنها تترافع في محكمة: وأستغرب من بعض الآراء الصادرة حول ذلك من الوسط الأكاديمي. وأجد بأن مسألة توجيه الاستثمار في التعليم ليجد طريقه على الخارطة السياحية، لا يراعي، بأي شكل من الأشكال، وزن التعليم الجامعي ووجاهته، ولا أصول تطوير السياحة ونحن نقطع أوصالها بتصنيفات لا نهاية لها.. فاليوم سياحة تعليمية، وغداً سياحة دينية، وبعد غد سياحة استشفائية، وقس على ذلك.
فقاطعتها بالقول: ولكن الطالب قد يكون مصدراً جيداً لزيادة دخل المرافق ذات العلاقة بحياته اليومية، كالسكن ومحلات الأثاث والمواصلات والمطاعم و..
فردت فوراً: هل يصح أن نتعامل مع أي موظف أجنبي كسائح؟ أو هل من الممكن أن نعتبر العمالة الأجنبية هدفاً لسياحة عمالية، مثلاً؟ فغالبيتهم يتحولون مع الوقت إلى مقيمين، والطالب كذلك، يبقى طالباً إلى أن ينهي دراسته الجامعية، ولا يمكن اعتباره سائحاً أو زائراً، «ولا قط شفنا» سياح يقضون أربع، أو خمس، أو حتى سبع سنوات من حياتهم، ويظلون سياحاً!
فقلت لها: ولكن ألا تظنين بأن هناك أشكالاً جديدة للسياحة بدأت تتطور مع تطور اهتمامات الناس وأذواقها، فهناك، مثلاً، من يجعل من التجربة السياحية فعلاً ثقافياً أو تعليمياً، كأن يستكشف تاريخ البلد ومعالمه، أو ينتسب لبرامج قصيرة ضمن التبادلات الثقافية أو الطلابية. وسمعنا كثيراً عن طلاب علم يذهبون في رحلات مطولة تتعلق بمجال اختصاصهم لتوسيع أفقهم العلمي أو تنويع خبراتهم العملية.
لحظة هالة! ما دخل ذلك بالسياحة التي عرفناها «من فتحنا».. فالسائح هدفه الترفيه والاستجمام في ربوع البلد الذي يزوره، وقد يهتم في أحسن الأحوال بحضور ندوة، أو معرض، أو حفلة غنائية، أو بالكثير سيزور متحفاً.
أما الطالب الجامعي، سيتصرف -مع الوقت- كما يتصرف المقيم ليوفر على نفسه تكاليف المعيشة في الغربة. وفي ظني، بأن ما يصرفه الطالب من أموال خلال فترة دراسته سيجري في عروق ما يسمى بالاقتصاد المعرفي.
و»بعدين»، خلينا نفرّق بين ما تصفين من نشاطات تعليمية لا صفية تقوم بها المدارس والجامعات لتجديد أفق الطالب ونظرته للعالم من حوله، وبين السياحة التعليمية التي يتم الحديث عنها بصيغة لا تخدم العملية التعليمية، ولا الهدف من الاستثمار فيها على أسس منهجية.
وتوقفت الصديقة لتأخذ أنفاسها، وأنا منشغلة بعداد دقائق المكالمة الذي تجاوز الساعة، لتصيح: آلو تسمعيني؟
تفضلي فلانة أسمعك، وأنا أتمتم في سري: الله يطولك يا روح!
فقالت: هل تعرفين حجم التشويش والإرباك الذي يحدث عند الخلط بين استراتيجيات تطوير التعليم العالي لتكون الدولة «وجهة مفضلة» للدراسة الجامعية، وبين استراتيجيات تطوير القطاع السياحي الذي يهتم بجذب جمهور مختلف تماماً، لا ناقة له ولا جمل في التعليم الأكاديمي المنتظم. ألا تتفقين معي؟
فرددت مبررة: ولكن هناك قلق من قبل المستثمرين في الجامعات بأن أعداد الملتحقين بها في تناقص، وهذا يتطلب ترويجاً مختلفاً يشمل الجوانب السياحية والترفيهية والخدمية لاستقطاب الطلبة من الخارج، وما المانع من جعل التعليم الجامعي عامل جذب للسياحة، والعكس صحيح؟
فأجابت: «في مانع!»، لأن سياسات الترويج في المؤسسات الجامعية العريقة تركز على جانبين أساسيين، أولها وأهمها، التصنيف أو الاعتماد الأكاديمي لتلك المؤسسات ببرامجها المختلفة التي تدلل على جودة ما تقدمه. والجانب الثاني، تنوع التخصصات الجامعية المحاكية للواقع والمتسقة مع التوجهات الحديثة لسوق العمل. ولا بأس حينها من إلقاء الضوء على ما تتميز به البلد والبيئة الجامعية كعوامل جاذبة، كما تقولين، وليس «علناً بلناً» باسم السياحة التعليمية.
واسترسلت: أعرف أن استقطاب الدارسين من الخارج عملية صعبة..
فقلت لنفسي: هانت!
ولأقول لها: أتفق معك، العملية ليست سهلة، الجامعات في تزايد والمنافسة تشتد، وهذا وضع سائد في كل مكان.
وعلقت: ولكن لا يوجد مبرر للزج بتطوير التعليم العالي في التنمية السياحية، ولا داعي..
فقاطعتها مذكرة بضرورة الانتهاء من إجراءات ابنها للدراسة في الخارج كالفيزا الجامعية وخلافه..
فضحكت، وردت بسخرية لتأكد على وجهة نظرها: «شفتي الطالب يحتاج فيزا دراسية مش سياحية!»
ومع السلامة.. عاد سامحيني طولت عليج!
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة