في أحد أشهر أفلام الكوميديا المصرية «واحدة بواحدة» بطولة عادل إمام، ظهر مصطلح «الفنكوش» ليجسد أحد أعظم أشكال الخداع التجاري، حيث ابتكر بطل الفيلم منتجاً وهمياً اسمه «الفنكوش»، وبدأ يروج له دون أن يكون له أي وجود حقيقي. هذه القصة التي كانت تُضحكنا في السينما هي الآن واقع نعيشه تحت مسمى جديد وهو «الهبة».
«الفنكوش» في الفيلم كان مجرد فكرة وهمية لمنتج لا وجود له، أما «الهبة» اليوم فهي واقع نعيشه بشكل مختلف. لقد تحولت «الهبة» إلى أداة تُستخدم فعلياً لترويج أي منتج أو تصرف، بغض النظر عن قيمته أو فائدته.
يكفي لأي شخص في هذا العصر أن يبتكر أي شيء، مهما كان عديم القيمة أو الفائدة، ثم يقوم بتأجير مجموعة من التافهين للترويج له عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مستخدمين كلمة «هبة» كسلاح سحري لجذب الانتباه.
وما إن تُطلق هذه الكلمة حتى يصبح هذا المنتج فجأة في قائمة اهتمامات المجتمع، بل ويتحول إلى شغل الناس الشاغل، وكأنه ضرورة حياتية لا غنى عنها.
والمثير للانتباه أن المجتمع في قصة «الفنكوش» وفي واقع «الهبة» اليوم يتصرف بنفس الطريقة، يلهث وراء شيء غير موجود، ويصدق الوهم دون تحقق. سواء كان ذلك في الفيلم أو في حياتنا اليومية، نرى كيف يمكن للوهم أن يسيطر على العقول.
هذه الظاهرة تُظهر بوضوح كيف أن العالم الافتراضي بات هو القائد الحقيقي لكثير من توجهاتنا الاجتماعية والثقافية.
على الرغم من أن هذا العالم الافتراضي يقدم لنا العديد من الفرص للتواصل والمعرفة، إلا أنه أيضاً يعزز من قوة الأغلبية الجاهلة التي لا تمتلك أي مقومات أو سمات تؤهلها لأن تكون شخصية قيادية أو قادرة على توجيه المجتمع.
تساؤلات كثيرة تطرح نفسها في هذا السياق. كيف أصبحنا نثق بآراء هؤلاء المؤثرين الجدد الذين لا يمتلكون سوى متابعين كثر على منصات التواصل الاجتماعي وكيف سميناهم مؤثرين أصلاً؟ كيف أصبح لعدد الإعجابات والمشاركات دور في تحديد ما إذا كان المنتج أو الفكرة تستحق الاهتمام أم لا؟ نحن أمام ظاهرة جديدة تُعرف بـ»ثقافة السطحية»، حيث يُقاس النجاح بعدد المتابعين، وليس بجودة المحتوى أو الأفكار التي تُطرح.
إن خطر هذه «الهبة» يتجاوز حدود ترويج المنتجات، بل يمتد إلى ترويج قيم وسلوكيات جديدة قد تكون السوس الناخر في المجتمع.
نحن أمام واقع جديد يعكس مدى ابتعادنا عن القيم الحقيقية والمبادئ الأساسية التي من المفترض أن تقودنا في حياتنا. إننا بحاجة إلى العودة إلى الأساسيات، إلى قيمنا الأصيلة، وإلى إدراك أن العالم الافتراضي ليس سوى انعكاس مشوه للواقع، وليس هو الواقع بحد ذاته.
لا يمكننا الاستمرار في الانجراف وراء هذه «الهبة» دون وعي أو إدراك. يجب علينا أن نقف وقفة تأملية ونراجع أنفسنا ونعيد النظر فيما نؤمن به ونتبعه، علينا أن نتحلى بالوعي والمعرفة لنفرق بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، وبين ما يستحق الاهتمام وما لا يستحقه، وأن نتذكر دائماً أن ما يلمع ليس دائماً ذهباً.