في زمن باتت فيه الحياة الافتراضية جزءاً لا يتجزّأ من واقعنا وحياتنا اليومية، وأصبحنا نهيم في مواقع التواصل الاجتماعي دون شعور كما لو كنا في سوق مفتوح، نشتري الأفكار ونسوّق القناعات دون أي كلفة، الكل يعرض سلعته، البائع والمشتري كلاهما أصبحا السلعة، فما نراه ليس مجرّد صدفة عابرة، وما نقرؤه ليس نتيجة بحث عشوائي، بل هو نتاج خوارزميات مدروسة تقوم بتفصيل وتحويل اهتماماتنا إلى معادلات رياضية، فمنصات التواصل الاجتماعي لم تَعُد منصّات للترفيه أو مشاركة الأخبار، بل أصبحت عوالم افتراضية متكاملة، تسعى جاهدة للسيطرة على انتباهنا وتوجيهنا حيثما تريد.
وهذه هي المعضلة الأخلاقية التي تواجه العالم، فالخوارزميات لا تتعامل مع المحتوى بناءً على جودته أو عمقه، بل وفقاً لما يحققه المحتوى من تفاعل وانتشار، فالخوارزميات لا تميّز بين منشور فكاهي وبين مقال علمي، بين فيديو ترفيهي وآخر توعوي، فما يهمّها هو عدد الإعجابات والمشاركات والتعليقات، حتى ولو كانت بعض هذه التفاعلات ناتجة عن مشاعر سلبية، مثل الغضب أو الجدل العقيم، فكل ما يزيد من التفاعل يصبّ في مصلحة الخوارزميات.
وبهذه البساطة أصبحنا جميعاً أسرى لهذه الخوارزميات، ولا أتحدث هنا عن المتلقّي العادي، بل ينضم لهذا الأَسْر كذلك صُنّاع المحتوى، الذين باتوا يركضون في مارثون محموم للّحاق بتوجهات منصّات التواصل الاجتماعي، سواء أكان المحتوى هادفاً أو سطحياً، فلم يَعُد الأمر متعلّقاً بما نريد أن نقدّمه، بل بما تريده تلك الخوارزميات منّا، ولا أحد في مأمن من هذه اللعبة، حتى صفحات الأخبار والمواقع الإخبارية وجدت نفسها مُجبرة على الانحناء أمام هذه المعادلات الرقمية.
ووفقاً لدراسة أجرتها «مؤسسة بيونت» عام 2023، أن هناك أكثر من 60% من الصحفيين في العالم أقرّوا بأنهم أصبحوا مُجبرين على تغيير أسلوبهم في طرح الأخبار بما يتماشى مع معايير التفاعل الرقمي، أما في دراسة أخرى نشرتها جامعة نيويورك في 2022، فقد أظهرت الأرقام أن المنشورات المثيرة للجدل تزيد من انتشار المحتوى بنسبة تصل إلى 70% مقارنةً بالمحتوى التوعوي أو التعليمي.
وإذا ما دققنا في هذه الإحصائيات، نجد أن أكثر من 80% من المستخدمين يقضون وقتاً أطول على المحتوى الذي يولّد ردود فعل قوية، حتى وإن كانت سلبية، وهذا ما يدفع الكثير من صانعي المحتوى إلى السير في هذا الطريق، حتى لو كان ذلك يعني التخلّي عن مبادئهم وقيمهم لصالح لعبة لا يمكن الفوز فيها إلا بإثارة الجدل أو الترويج للتفاهة.
المشكلة لم تَعُد في أن الجميع باتوا يسعون إلى التفاعل، فهذا أمر طبيعي في بيئة رقمية مليئة بالمنافسة، ولكن المشكلة اليوم تكمن في أننا أصبحنا أسرى، نتحرّك ضمن إطار محدد من الاهتمامات، نرى ونتفاعل مع ما تريد الخوارزميات أن نراه، ونقرأ ما تريد لنا أن نقرأه، بل وحتى تفاعلاتنا، التي نعتقد أنها حرّة، تُرصد وتُجمع وتُحلّل لتصميم مستقبل هذا المحتوى على مختلف الأصعدة بداية من «ماجلة» المنزل وحتى اتجاهاتنا الفكرية والسياسية.
ولذلك عندما ننتقد صُنّاع المحتوى أو نتذمّر من تردّي مستوى الطرح على وسائل التواصل الاجتماعي، علينا أن نُدرك أن جزءاً من المشكلة يكمن في هذا النظام الرقمي الذي حوَّلنا جميعاً، دون استثناء، إلى عبيد لآليات التفاعل، وجعلنا أسرى لدى معادلات معقّدة وبيانات ضخمة تُحدِّد ماذا نرى ومتى نراه وكيف نشعر تجاهه؟
ولست هنا لأخبركم بأنه علينا مقاطعة هذه المنصّات والعودة للتكنولوجيا البدائية والمواقع الإخبارية القديمة، ولسنا بحاجة للهروب من هذه المنصّات، ولكن علينا أن نستعيد جزءاً من حرّية الاختيار، وأن نُدرك أننا يجب أن نتحكّم بما نقرأ ونشاهد، لا أن نترك هذه المعادلات الرقمية والخوارزميات تفرض علينا ما تحيكه وتفصّله لنلبسه نحن، فلنكسر هذه القيود ولو قليلاً، ولنحاول أن نختار ما نتعرّض له بوعي، بعيداً عن أَسْر الخوارزميات لنا.
{{ article.visit_count }}
وهذه هي المعضلة الأخلاقية التي تواجه العالم، فالخوارزميات لا تتعامل مع المحتوى بناءً على جودته أو عمقه، بل وفقاً لما يحققه المحتوى من تفاعل وانتشار، فالخوارزميات لا تميّز بين منشور فكاهي وبين مقال علمي، بين فيديو ترفيهي وآخر توعوي، فما يهمّها هو عدد الإعجابات والمشاركات والتعليقات، حتى ولو كانت بعض هذه التفاعلات ناتجة عن مشاعر سلبية، مثل الغضب أو الجدل العقيم، فكل ما يزيد من التفاعل يصبّ في مصلحة الخوارزميات.
وبهذه البساطة أصبحنا جميعاً أسرى لهذه الخوارزميات، ولا أتحدث هنا عن المتلقّي العادي، بل ينضم لهذا الأَسْر كذلك صُنّاع المحتوى، الذين باتوا يركضون في مارثون محموم للّحاق بتوجهات منصّات التواصل الاجتماعي، سواء أكان المحتوى هادفاً أو سطحياً، فلم يَعُد الأمر متعلّقاً بما نريد أن نقدّمه، بل بما تريده تلك الخوارزميات منّا، ولا أحد في مأمن من هذه اللعبة، حتى صفحات الأخبار والمواقع الإخبارية وجدت نفسها مُجبرة على الانحناء أمام هذه المعادلات الرقمية.
ووفقاً لدراسة أجرتها «مؤسسة بيونت» عام 2023، أن هناك أكثر من 60% من الصحفيين في العالم أقرّوا بأنهم أصبحوا مُجبرين على تغيير أسلوبهم في طرح الأخبار بما يتماشى مع معايير التفاعل الرقمي، أما في دراسة أخرى نشرتها جامعة نيويورك في 2022، فقد أظهرت الأرقام أن المنشورات المثيرة للجدل تزيد من انتشار المحتوى بنسبة تصل إلى 70% مقارنةً بالمحتوى التوعوي أو التعليمي.
وإذا ما دققنا في هذه الإحصائيات، نجد أن أكثر من 80% من المستخدمين يقضون وقتاً أطول على المحتوى الذي يولّد ردود فعل قوية، حتى وإن كانت سلبية، وهذا ما يدفع الكثير من صانعي المحتوى إلى السير في هذا الطريق، حتى لو كان ذلك يعني التخلّي عن مبادئهم وقيمهم لصالح لعبة لا يمكن الفوز فيها إلا بإثارة الجدل أو الترويج للتفاهة.
المشكلة لم تَعُد في أن الجميع باتوا يسعون إلى التفاعل، فهذا أمر طبيعي في بيئة رقمية مليئة بالمنافسة، ولكن المشكلة اليوم تكمن في أننا أصبحنا أسرى، نتحرّك ضمن إطار محدد من الاهتمامات، نرى ونتفاعل مع ما تريد الخوارزميات أن نراه، ونقرأ ما تريد لنا أن نقرأه، بل وحتى تفاعلاتنا، التي نعتقد أنها حرّة، تُرصد وتُجمع وتُحلّل لتصميم مستقبل هذا المحتوى على مختلف الأصعدة بداية من «ماجلة» المنزل وحتى اتجاهاتنا الفكرية والسياسية.
ولذلك عندما ننتقد صُنّاع المحتوى أو نتذمّر من تردّي مستوى الطرح على وسائل التواصل الاجتماعي، علينا أن نُدرك أن جزءاً من المشكلة يكمن في هذا النظام الرقمي الذي حوَّلنا جميعاً، دون استثناء، إلى عبيد لآليات التفاعل، وجعلنا أسرى لدى معادلات معقّدة وبيانات ضخمة تُحدِّد ماذا نرى ومتى نراه وكيف نشعر تجاهه؟
ولست هنا لأخبركم بأنه علينا مقاطعة هذه المنصّات والعودة للتكنولوجيا البدائية والمواقع الإخبارية القديمة، ولسنا بحاجة للهروب من هذه المنصّات، ولكن علينا أن نستعيد جزءاً من حرّية الاختيار، وأن نُدرك أننا يجب أن نتحكّم بما نقرأ ونشاهد، لا أن نترك هذه المعادلات الرقمية والخوارزميات تفرض علينا ما تحيكه وتفصّله لنلبسه نحن، فلنكسر هذه القيود ولو قليلاً، ولنحاول أن نختار ما نتعرّض له بوعي، بعيداً عن أَسْر الخوارزميات لنا.