قبل أكثر من اثنتي عشرة سنة وبينما كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء ونحن نتجول سيراً على الأقدام في إحدى العواصم العربية، لفت انتباهي إعلان كبير وُضع على واجهة أحد المطاعم، وكان بسيطاً يحتوي على صورة لشطيرة برجر مكتوب أمامها –وكأنها تتحدث– عبارة «أتحداك تخلصني»، فقطعت الحديث مع صديقي وهو بروفيسور في الإعلام، وقلت له: انظر إلى مستوى الرخص في ذلك الإعلان! فقال لي: ألا تعلم أن الإعلانات تخاطب الغرائز لا العقول، وهذا الإعلان يخاطب غريزة الجوع عند البشر، وأغلب الناس تحركهم غرائزهم فما وجدته رخصاً في الخطاب يجده غيرك فرصة.كان ذلك الإعلان على واجهة مطعم، قبل أن تحكم وسائط التواصل الاجتماعي سيطرتها علينا، في وقتها كان الإنسان بوصفه كائناً مفكراً مازالت لديه فسحة بسيطة للتفكير والتأمل، أما الآن فكبرت هذه الفسحة، ومازال الإنسان يفكر ويتأمل، لكن في الأكل الذي غصت به وسائط التواصل الاجتماعي، لأن إعلانات الطعام تجاوزت إغراء المستهلك بالكميات، وانتقلت إلى الأنواع لتتنافس على تقدميها، فهذا يقدم «حليب الزرافة المبخر» وذلك يقدم «شرائح لحم البقر المدلل في أعالي ما وراء البحار» مع ملاحظة أنها يجب أن تكون باللغة الإنجليزية، وإلا لن تكون ذات قيمة، وظهرت مصطلحات جديدة أضيفت إلى قائمة الطعام في المطاعم، تحتاج إلى أن يقدم لك المطعم معها دليل المصطلحات فتقرأ تعريفها ثم تقرأ قائمة الطعام، وحتى هذا لم يعد كافياً، فتقديم الطعام في المطاعم تحول إلى عرض مسرحي يقدمه فنان «النادل» يرافقه تصوير من حضر ليأكل الطعام قبل أن تلمسه يده ليخبر بذلك كوكب الأرض أنه يأكل الآن، ويبدو أن كثيراً من البشر اختلط عليهم موضوع الغداء والعشاء مع موضوع الزواج، فالزواج كما نعلم هو الذي يتطلب الإشهار.فهل تحول الطعام من وسيلة لإمدادنا بالطاقة والحفاظ على بقائنا أحياء، إلى هواية ووسيلة للترفيه، وقد يكون أهم ترفيه، بل الأشد من ذلك تحول إلى وسيلة للتفاخر الاجتماعي، فصحن السلطة الذي كان يعتبره أكثر الناس عقاباً ضمن وجبة الطعام، أصبح شخصية اعتبارية مشهورة تُلتقط له ومعه الصور وتُنشر ليقول صاحبها انظروا إليّ وأنا أعيش حياة الرفاهية، وذلك بعد أن أضيف لذلك الصحن رشة من ذرات الكينوا، مع ذرات من أعشاب غابات الهندوراس والقليل من قطع الأفوكادو، ليبدأ بعد ذلك حصاد «الإعجابات» على إنستغرام وغيره، وليعرف الجميع أننا لم نتخلّف عن الركب الحضاري.أعتقد أننا نحتاج إلى أن نتحرّر من أَسر هذه اللعبة النفسية، وأن نستقيل أو على أقل تقدير نحصل على إجازة من هوس الطعام، ونتعرّف من جديد على أهمية الأكل باعتباره وسيلة للبقاء، والاستمتاع به ضمن هذا السياق.* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية