هيفاء عدوان

وماً بعد يوم تتكشف لنا قصص جديدة تبدو غير قابلة للتصديق، تحمل في طياتها كثيراً من الأسئلة والدهشة والأسى في آن واحد.

إحدى تلك القصص، المأساة، كانت فيما نشرته جريدة (الوطن) قبل أيام عن رجل عربي الجنسية عاش في بيننا لمدة أربعين عاماً، بلا وثائق تثبت وجوده، وكأنه عاش على الهامش دون هوية فظل يتنقل بين الحياة والمجهول، رجل بلغ من العمر أرذله، بعد أن أفناه في العمل كعامل بناء، وظل طيلة تلك السنوات وحيداً دون أقارب أو عائلة أو حتى هوية، قصة لم تكن لتطفو إلى السطح لولا المأساة التي رافقت وفاته.

يقول تقرير (الوطن) إنه في يناير 2024، شعر الرجل بألم شديد في مفصل الفخذ، جعله يتوجه إلى مستشفى السلمانية برفقة صديق بحريني، ولأن الحظ لم يكن يوماً بجانبه، دخل المستشفى باستخدام بطاقة هوية تعود لشخص آخر، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة، تاركاً خلفه أسئلة كثيرة ومشاعر متشابكة من التعاطف والاستغراب.

لكن الأغرب في القصة ليس فقط في حياته البسيطة التي كانت خالية من الوثائق الرسمية؛ بل في الوقت الذي استغرقه دفنه، حيث بقي جسده في طي النسيان لمدة تسعة أشهر، وكأن الزمان توقف في انتظار حكم قضائي لإصدار شهادة وفاة، وخلال هذه الفترة، لم تكن هناك أي مستندات تثبت هويته، ولم يظهر أي فرد من عائلته إلا بعد جهد كبير للتواصل مع قريب يعمل في دولة خليجية.

ولا شك في أن القضية كشفت خلل يحتاج إلى وقفة جادة من الجهات المعنية؛ فكيف لرجل يعيش بيننا أربعين عاماً أن يبقى دون وثائق تثبت وجوده؟ وكيف يمكن أن تُترك جثة متوفى طوال هذه الفترة دون حل سريع؟ ألا يمكن إيجاد آلية تضمن التعامل الإنساني مع مثل هذه الحالات؟

إن هذه الحادثة تدعو إلى التساؤل والاستغراب، لكنها تحمل أيضاً رسالة مهمة للمسؤولين والمعنيين بضرورة وجود أنظمة خاصة وآليات مرنة تعالج الحالات الإنسانية التي تحتاج إلى تدخل فوري، سواء فيما يخص الأوراق الثبوتية أو الإجراءات المتعلقة بالوفاة.

إنسانيتنا تقاس بقدرتنا على الوقوف بجانب المحتاجين، خصوصاً في أوقات ضعفهم، واليوم نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الأنظمة التي قد تؤدي إلى معاناة أشخاص عاشوا بيننا، وكانوا جزءاً من مجتمعنا وتركوا أثراً في حياتنا، حتى وإن كانوا مجهولي الهوية أو دون أوراق ثبوتية.

دعوتنا لكل من يعنيهم الأمر أن يحملوا هذا الملف، وينظروا إليه بعين الإنسانية قبل الإدارة، فالأرواح التي غادرتنا لا تنتظر توقيعاً أو أختاماً رسمية لتجد الراحة، بل تحتاج ضوابط تعكس إنسانيتنا.

إضاءةكانت البحرين، وما زالت، نموذجاً للتعايش والتكاتف والفزعة، حيث تمتد أيادي العون لكل محتاج، بغض النظر عن هويته أو جنسيته أو أصله. أخلاق نبيلة توارثناها ولا تزال، وستبقى تشكل قيمنا وإنسانيتنا التي نعتز بها، لذلك جب أن نستلهم تلك القيم لنكون دائماً في صف الإنسان، أينما كان، وفي أي ظرف وجد.