بعد أن استعرضنا في مقالتنا السابقة تجربة «سنولي» كمثال محلي استطاع تحويل التعلّم إلى تجربة مشوّقة تمزج بين الابتكار والمتعة، ننتقل اليوم إلى جوهر يدفع هذه التجارب إلى آفاق أوسع: البيانات. فكما أشعلت «سنولي» شرارة الحماس لدى أبنائنا، تستطيع البيانات أن تُشعل فتيل التحوّل في القطاع التعليمي بأكمله، لتنتقل بنا من مجرد مبادرات فردية إلى نظام تعلّمي مترابط يستند إلى حقائق دقيقة، ورؤى مستقبلية، وخطط استراتيجية محكمة.

لم تعد القضية مقتصرة على تطبيقات ترفيهية تُحفّز الطلاب على تحقيق أعلى النقاط، بل باتت البيانات هي «الذهب الجديد» لعصر المعرفة. من خلال تحليل سلوك المتعلّمين ومستويات تحصيلهم ومهاراتهم، يمكننا استنباط أفضل الأساليب التعليمية، وتصميم مناهج أكثر مرونة. هكذا يمكن للمنصّات الذكية أن تتجاوز دورها التقليدي، فعلى سبيل المثال: «إديوجيل» منصة تعليمية متكاملة توفّر محتوى نوعيًّا وخدمات للمعلمين والطلاب، في حين يمثّل «سنولي» أحد حلولها الذكية الموجّهة للطلبة، مما يمنحه بُعداً ترفيهيّاً وتعليميّاً في آنٍ واحد، فتُصبح أدوات التعليم مصدراً مستمراً لإنتاج المعرفة يمكن لصُنّاع القرار الاستفادة منه في بناء سياسات تعليمية أكثر دقة وفاعلية.

وفي مملكة البحرين، يمكن أن تُترجم هذه البيانات إلى أداة علمية موجّهة، توفّر أرضيّة صلبة لتطوير التعليم بعيداً عن الاجتهادات الشخصية. هنا تبرز أهمية الشراكات بين القطاع الحكومي والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص، فالأخير يوفّر الخبرات التقنية والدعم الرقمي، فيما تضيف المؤسسات الأكاديمية القيمة العلمية والمحتوى النوعي. أما القطاع الحكومي، فيؤمّن بيئة تنظيمية وبنية تحتية تدعم تنفيذ خطط طموحة تتوافق مع رؤية وطنية واضحة للتنمية البشرية.

إن هذا التوجّه ليس بعيداً عن المشهد العالمي، إذ نجد دولاً رائدة مثل فنلندا وكوريا الجنوبية والصين وسنغافورة قد حققت قفزات نوعيّة في أنظمتها التعليمية بفضل الاستثمار في تحليلات البيانات. هناك، تُصمم تجارب تعليمية مخصّصة لكل طالب، وتستثمر البيانات في الذكاء الاصطناعي لصياغة أساليب تدريسية مبتكرة. هذه التجارب العالمية ليست مجرد أمثلة للنظر إليها بإعجاب، بل نماذج يمكن الاستلهام منها، وتطبيقها بما يتناسب مع خصوصيتنا واحتياجاتنا المحلية.

وفي ظل هذا المشهد، تعود أهمية الشراكات بين مختلف القطاعات إلى الواجهة، إذ أصبحت الركيزة الأساسية لتحويل البيانات من مجرد أرقام إلى قرارات استراتيجية طويلة المدى. قرارات لا تنعكس إيجاباً على الطلاب فحسب، بل تساهم في بناء اقتصاد قائم على المعرفة، وتنشئة جيل قادر على الإبداع والابتكار.

حينها يصبح التعليم ليس مجرد واجب أكاديمي بل رحلة تثري العقول، وتفتح أبواب المستقبل أمام أبنائنا وبناتنا. قد يبدو الطريق معقّداً، لكن البداية متاحة للجميع: الاعتراف بقيمة البيانات، وتبنّي ثقافة الشراكة، والثقة بأن لدينا الموارد والإرادة لتفعيل هذا التحوّل.

إن نجاح هذه المعادلة يعني أنّنا نسير على الدرب الصحيح نحو تعليمٍ أكثر متعةٍ وجدوى، يستند إلى حقائقٍ ملموسةٍ لا إلى أهواءٍ عابرة، ويؤسّس لأجيالٍ تمتلك مهارات المستقبل. كما أنّ هذه المنهجيّة في توظيف البيانات لا تقتصر على قطاع التعليم وحده، بل يمكن استثمارها في القطاعات الحكومية الأخرى لتعزيز الكفاءة واتخاذ القرارات على أسسٍ علمية.

وفي حين تشكّل البيانات نبض المستقبل، فإن الشراكات الإستراتيجية هي القلب الذي يضخّ هذا النبض في شرايين منظومتنا التعليميّة وغيرها من القطاعات، فترتفع معايير الجودة ويعلو صوت الابتكار، لنتصدّر بذلك مشهد التعلّم الرقمي ونرسم ملامح التطوّر في منطقتنا والعالم.

* خبير تقني