لم يكد قطاع غزة يلتقط أنفاسه بعد حرب استمرت خمسة عشر شهراً، أودت بحياة أكثر من سبعة وأربعين ألف شهيد، وأصابت أكثر من مائة وعشرة آلاف فلسطيني بجروح متفاوتة، وأدت إلى تدمير أكثر من مائة وعشرين ألف مبنى، وتشريد 90% من السكان، حتى فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم مجدداً بتصريحاته حول تهجير الغزاويين وإعادة توطين سكان غزة في مصر والأردن، وهذا التصريح الصادم لم يكن مفاجئاً لمن تابع مسيرته السياسية القائمة على إثارة الضجيج واللعب على وتر النزعات الشعبوية.
ترامب الذي اعتاد قلب الطاولة في وجه كل القواعد الدبلوماسية، لم يقدّم مشروعه هذا في سياق بحث عن حلّ عادل للصراع، إنما يقوم بطرحه كما يطرح مستثمر عقاري مشروعاً لنقل سكان منطقة منكوبة إلى موقع جديد، دون أدنى اعتبار للبعد الإنساني والتاريخي والسياسي للقضية، فالفلسطينيون بالنسبة له مجرد عائق يجب إزاحته لإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة، تماماً كما كان يفكر قادة المشروع الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين.
ما يجعل هذه التصريحات أكثر خطورة أنها تأتي في أعقاب عدوان استمر أكثر من عام، قوبل بصمت دولي مُخزٍ، حيث اكتفى المجتمع الدولي بمراقبة مشاهد الإبادة والتدمير والقتل الجماعي دون أن يتخذ خطوة واحدة لوقف المأساة، فلم تُفرض أية عقوبات على إسرائيل، ولم تُفتح تحقيقات جادة حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، كما لم تتم حتى إدانة الأفعال بشكل صريح كما يحدث في نزاعات أخرى حول العالم، وخصوصاً موقفهم من أزمة أوكرانيا التي كشفت ازدواجية المعايير الأخلاقية في التعاطف الدولي، هذا المناخ من الإفلات من العقاب هو الذي شجّع ترامب على طرح أفكار تبدو كأنها من زمن النكبة الأولى، حيث كان الحديث يدور حول "حلول" تنقل الفلسطينيين إلى أماكن أخرى بدلاً من الاعتراف بحقهم في وطنهم.
لكن وقبل أن يفكّر ترامب في طرد الفلسطينيين من وطنهم، هل كان يُدرك أن اليهود أنفسهم، قبل أكثر من مائة عام، لم يكونوا مقتصرين في مشاريعهم التوسعية على فلسطين وحدها؟ ففي سبتمبر 1917، تلقى اللورد فرانسيس بيرتي، سفير بريطانيا لدى فرنسا، رسالة من الدكتور اليهودي الروسي الأصل، أم أل روثنشتاين، يقترح فيها تأسيس دولة يهودية في الأحساء، الواقعة اليوم في شرق المملكة العربية السعودية، مع التخطيط لغزو البحرين والانطلاق منها لتنفيذ المشروع.
لم يكن روثنشتاين مدركاً آنذاك أن الأحساء لم تعد تحت السيطرة العثمانية، وأنها قد أصبحت تحت قيادة الملك عبدالعزيز آل سعود والحكم السعودي الذي اعترفت به بريطانيا، لكنه لم يكن بحاجة إلى ذلك، فالمهم بالنسبة له هو وجود راعٍ استعماري يفتح الباب أمام إقامة الدولة اليهودية.
ومع أن المشروع قوبل بالرفض من قِبل وزير الخارجية البريطانية آنذاك، آرثر بلفور، إلا أن بريطانيا لم تكن بعيدة عن تقديم التسهيلات للمشروع الصهيوني، حيث صدر وعد بلفور بعد ذلك بشهر واحد فقط، ليؤكد أن العدالة ليست من شيم هذا الوعد، إنما هي تأسيس لفرض واقع سياسي جديد.
وعودة لتصريح ترامب عن تهجير الغزاويين، فليس غريباً أن يكون الرد العربي والدولي على اقتراح ترامب رفضاً قاطعاً، لكن الغريب أن الفلسطينيين مازالوا مضطرين للردّ على مثل هذه الأطروحات بعد ستة وسبعين عاماً من النكبة، فلماذا يجد الاحتلال الإسرائيلي دائماً من يتطوع لطرح حلول على حساب الضحية وليس على حساب الجاني؟ لماذا يتم تصوير الفلسطينيين دائماً بأنهم هم المشكلة، وليس الاحتلال الذي صادر أرضهم واستباح دماءهم وحاصرهم لأكثر من سبعين عاماً؟ في كل مرة، يتم تحويل القضية إلى مسألة "أين يذهب الفلسطينيون؟"، بدلاً من السؤال الأهم: "متى ينتهي الاحتلال؟".
وسط هذه الفوضى السياسية، لم يتأخر بنيامين نتنياهو في إظهار وقاحته المعتادة، حيث قال في تصريح له خلال مقابلة تلفزيونية إن السعودية مع حل الدولتين، فكان رده أنه بإمكان الفلسطينيين إقامة دولتهم في السعودية، لأنها تملك أراضي شاسعة وخالية، وكأن القضية الفلسطينية مجرّد مسألة سكنية يمكن حلها بتوزيع اللاجئين في أي دولة أخرى! منطق نتنياهو هذا ليس جديداً، فهو امتداد لعقلية صهيونية قديمة كانت دائماً تحاول إقناع العالم بأن فلسطين أرض بلا شعب، وحين فشلت تلك السردية، بدؤوا يتحدثون عن حلول تقتضي نزع الفلسطينيين من أرضهم بدعوى أن هناك متسعاً لهم في أماكن أخرى.
هذه المحاولات لتأصيل فكرة تهجير جديد للفلسطينيين هي إعادة إنتاج لنفس السياسات الاستعمارية التي واجهها العرب منذ عقود، حيث يتم جرّهم دائماً إلى موقف الدفاع عن أنفسهم بدلاً من أن يكونوا في موقع الهجوم السياسي والحقوقي، فبدلاً من أن تكون المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي ومشروعه الاستيطاني، يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة محاولات مستمرة لانتزاع شرعية وجودهم، وكأنهم مطالبون بإثبات حقهم في أرضهم مرة تلو الأخرى.
المعادلة واضحة: الفلسطينيون ليسوا هم من يجب أن يبحثوا عن وطن جديد، بل إسرائيل هي التي يجب أن تبحث عن مبرر قانوني وأخلاقي لوجودها على أرض اغتصبتها بالقوة، وطالما أن العالم لايزال يناقش حلولاً مثل تهجير الفلسطينيين بدلاً من إنهاء الاحتلال، فإن هذا يعني أن هناك شيئاً جوهرياً خاطئاً في النظام الدولي الحالي.
من المؤسف جداً أن المشروع الصهيوني لم يكن يوماً يعتمد فقط على قوته الذاتية، بل على ضعف الطرف الآخر، وعلى تحويل الضحية إلى متهم دائم، فقبل مائة عام كان الحديث يدور عن كيفية احتلال البحرين والأحساء، واليوم يجري الحديث عن كيفية التخلص من الفلسطينيين بتهجيرهم إلى مصر والأردن والسعودية، فالمشكلة لم تكن يوماً في الأرض، بل في العقلية الاستعمارية الصهيونية التي ترى أن العرب يجب أن يكونوا دائماً في موقع الدفاع، لا المطالبة بحقوقهم.