عندما كنت صغيراً كان أول متحف زرته هو المتحف البغدادي، ذلك المتحف الذي يعرض لحياة البغداديين، ولفترة ليست بالبعيدة عن التي أسس فيها المتحف، فالحياة التي يعرضها تكاد تكون طبيعتها انتهت قبل تأسيس المتحف بعشر سنين، ومع ذلك عندما زرت المتحف لأول مرة، كنت أستغرب من طريقة الحياة، فأجد بعض تفاصيلها صعبة والبعض الآخر عبارة عن فراغ كبير وملل، ومع التحولات الكبيرة في طبيعة الحياة اليوم، انتظروا تأسيس متاحف تتحدث عن حياتنا وجزء من حياة أبنائنا، وعند تأسيس تلك المتاحف -ربما بعد عشر سنين- سيأخذ أبناؤنا، أولادهم إليها ليروا يوميات حياة أجدادهم، ولأن تفاصيل حياتنا كثيرة فيمكن أن نتصور متحفاً مستقبلياً متخصصاً، ألا وهو متحف الدوام، ولنأخذ جولة في هذا المتحف قبل تأسيسه وقد نتعرّف على رأي أحفادنا بطريقة عملنا.
سوف يبدأ المرشد الشرح للزوار من البيت وليس المكتب، ليحدثهم عن الخط اليومي الروتيني الذي يبدأ بالاستيقاظ مبكراً، فيريهم جهاز الهاتف لحظة عمل المنبه، وكيف يستيقظ الموظف أو حتى صاحب العمل، كالمجنون ليقف أمام خزانة الملابس ويخرج منها ملابس ضيقة غير مريحة، ليخرج بعدها مباشرة إلى الشارع مع عشرات الآلاف في التوقيت نفسه والذي عادة ما يسمى بوقت الذروة، التي يلتقي خلالها بأشخاص مروا بالخط الروتيني نفسه، وهنا يحدثهم المرشد عن الصمت الجماعي في الباصات والقطارات والمترو، عندها سيعد أحفادنا هذه الجزئية جريمة، وذلك عندما يعلمون أن كل هؤلاء الذين استيقظوا بهذه الطريقة وارتدوا هذه الملابس، سيذهبون ليجلسوا أمام شاشات من الممكن الجلوس أمامها بشكل أفضل في المنزل، وبملابس مريحة، لن يطيل المرشد الحديث معهم لأنه سيأخذهم إلى المكاتب، التي ستكون عبارات عن مساحات ضيقة يحشر فيها الموظفون ليُأدوا عملهم، وهنا سيجد أحفادنا أن هذا الاختراع البشري العبقري ما هو إلا مركز اعتقال طوعي، وهنا يحاول المرشد تغيير المشهد فيأخذهم إلى غرفة كتب على بابها (قاعة الاجتماعات)، ويشرح كيف كان يقضي الأشخاص ساعتين أو ثلاث وربما أكثر ليتناقشوا في قضايا، كان من الممكن تلخيصها في بريد إلكتروني من أربع فقرات، وأيضاً يريهم ما كان يعرف بالعروض التقديمية، وكيف كان يقف الشخص ليقرأ منها بصوت مرتفع ما هو مكتوب ويمكن للجميع قراءته، عندها سيعلق أحد الزوار بقوله: «كان المفترض أن يكون اسم هذه القاعة غرفة فنون إضاعة الوقت بدلاً من غرفة الاجتماعات» وهنا سيقول له المرشد: «ماذا لو علمت أن هناك اجتماعاً يعقب كثيراً من الاجتماعات يسمى اجتماع مناقشة الاجتماع السابق، يعقد فقط لمناقشة ما تم الاتفاق عليه في الاجتماع السابق!».
ينتقل بعدها الزوار لأماكن أخرى في المتحف، حيث يصلون إلى منطقة صغيرة مفتوحة عند أقرب مخرج، يقف فيها عدد من الموظفين ليدخنوا، ويختصر تعريفها للزوار بقوله: «بإمكانكم تسمية هذه البقعة بالمركز الاجتماعي»، بعد ذلك يأخذهم إلى لوحة كبيرة دون عليها كل أعذار التأخير، بداية من الازدحام المروري الذي هو حالة طبيعية وصولاً إلى وفاة العم والخال للمرة العاشرة وبنجاح ساحق، ثم يذهبون ليصلوا أخيراً إلى ركن الآلات حيث سيتعرف الزوار على جهاز التصوير «استنساخ الأوراق» والطابعات التي تنتج الورق الذي سيستنسخ بعد ذلك، وجهاز الهاتف الأرضي، وهي أجهزة تراثية في ذلك الوقت.
بعد كل ذلك وفي ختام تلك الجولة يقدم المرشد بعض المعلومات عن متحف الدوام والذي هو بواقع الحال افتراضي وقبل أن يخلعوا نظارات الواقع المعزز يطل عليهم مؤسس المتحف برسالة مصورة سريعة، ليعلموا بعد ذلك أن مؤسس المتحف لم يزر المتحف أبداً وأنه يعيش في دولة أخرى.
عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية